- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء التاسع عشر

بقلم: نزار حيدر
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
إِذا اعتبرنا أَنَّ التَّاريخَ كتابٌ، وهوَ كذلكَ، فستنطبقُ عليهِ الآية الكريمة التي صدَّرنا بها المَقال، ولكن كيفَ ذلكَ؟!.
إِنَّ الذينَ يؤمنُونَ ببعضِ التَّاريخ ويكفرُونَ ببعضٍ هُم كالذينَ يؤمنُونَ ببعضِ الكتابِ ويكفرُونَ ببعضٍ والذين حدَّثنا القُرآن الكريم عن سببِ ومظاهرِ هذا التَّبعيضِ بقَولهِ {ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ} وهؤلاء هُم المُغرضُونَ الذينَ يسعَونَ دائماً لليِّ عنُقِ الحقائقِ التاريخيَّةِ فيأخذُوا منها ما يُعضِّد مناهجهُم ويخدِم وسائلهُم ويُشرعِن طريقتهُم ويغضُّوا الطَّرفَ عن كُلِّ ما لا يخدِم مصالحهُم ولا يسنِد أَهدافهُم.
وإِذا اضطرُّوا لحاجةٍ في نفُوسهِم فهُم مُستعدُّونَ لتزويرهِ وتحريفهِ وتبديلهِ أَو على الأَقلٍ لتغييرِ فحواهُ وتبديلِ تفسيرهِ ليأتي على مقاساتهِم، وهؤلاء هُم {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أَو {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}.
إِنَّ التَّاريخَ وحدةٌ واحِدةٌ خاصَّةً إِذا تتعلَّقَ بمقطعٍ زمنيٍّ مُحدَّدٍ فإِمَّا أَن نأخذَ بها كلِّها أَو لا نأخُذَ منها شيئاً، أَمَّا الذينَ يقطِّعونَ أَوصالهُ ويقسِّمونَ وحدتهُ وانسجامهُ فهؤُلاء كمَن يُؤمِنُ ببعضِ الكتابِ ويكفرُ ببعضٍ سيَّان.
إِنَّهم يخدعُونَ أَنفُسهُم!.
ولتوضيحِ الفكرةِ نسُوقُ تاريخ الفترة الزَّمنيَّة التي جمعَت حياةَ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) وولداهُ الحسنانِ (ع) ككِتابٍ واحدٍ، فلماذا نأخُذَ بخلافةِ الإِمام (ع) ونتغاضى عن تركِ الحسنِ السِّبطِ (ع) لها؟! لماذا نأخذَ بعاشُوراء الحُسين (ع) ولا نعيرُ لصُلحِ الحسنِ (ع) أَهميَّةً؟!.
لماذا نُحاولُ إِستيعابَ صبرَ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) على تركهِ الخلافة ولا نسعى لفهمِ المَوضُوعِ كأَمرٍ واقعٍ بعيداً عن المثاليَّاتِ أَو التَّفاسيرِ الغيبيَّةِ؟! إِذا كُنَّا نسعى للإِستفادةِ من التَّاريخِ كحلُولٍ [شرعيَّةٍ] لتحدِّياتِ الحاضِرِ؟!.
إِنَّ التَّعامل الإِنتقائي معَ وِحدة التَّاريخ يُضيِّع علينا الكثير ممَّا يُمكنُ أَن يخدمَنا ونحنُ نُواجه تحدِّيات العصر، ولا يتحقَّق فهمَنا لوحدةِ التَّاريخ إِلَّا إِذا تجرَّدنا من العصبيَّة والمِثاليَّة والإِنتقائيَّة!.
لنأخذً مثلاً على ذلكَ من يدَّعي أَنَّهُ يسيرُ على نهجِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) في الحُكمِ والسُّلطةِ.
أَوَّلاً؛ فإِنَّ الإِمام (ع) منهجٌ مُتكامِلٌ لا يجوزُ تقطيعَ أَوصالهِ لخدمةِ أَغراضٍ مشبوهةٍ يتمُّ تغليفها بهويَّةٍ مُقدَّسةٍ.
إِنَّهُ منهجٌ في العلمِ والإِدارةِ والسِّياسةِ والإِقتصادِ والحربِ والسِّلمِ والحقُوقِ والقضاءِ والنَّزاهةِ والأَخلاقِ والدِّينِ والبناءِ والإِعمارِ والعدالةِ والمُواطنةِ الصَّالحةِ وفي كُلِّ شيءٍ، فما الذي أَخذهُ من كُلِّ هذا هؤُلاء المُدَّعونَ؟! أَرُونا نموذجاً لنصدِّقكُم!.
إِنَّ عليّاً (ع) هوَ هوَ لم يتغيَّر يومَ أَن كانَ في السُّلطةِ أَو خارجَها، في السِّلمِ وفي الحربِ، جالساً في دكَّةِ القضاءِ أَو في بيتِ المالِ، فمعيارهُ لم يتغيَّر، العدلُ أَوَّلاً وأَخيراً {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} قائلاً {فَلأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ} وقولهُ (ع) {لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ ولَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ، الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَه والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ} ودونَ ذلكَ لا يُعادِلُ عندهُ شروى نقيرٍ أَو عفطةَ عنزٍ أَو {أَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا} على حدِّ وصفهِ.
فأَينَ المُدَّعُونَ من كُلِّ هذا أَو بعضهِ؟! سُوقوا لنا نموذجاً واحداً لنُصدِّقكُم! أَو أَنَّكُم كما يصفهُم أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ ولَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ!} وهذا ليس من نهجِ الإِمامِ في شيءٍ أَبداً.
تأسيساً على ذلكَ فإِنَّ مَن يدَّعي التزامهِ بنهجهِ (ع) في السُّلطةِ يلزم أَن لا تغيِّرهُ سُلطةٌ أَو مالٌ أَو جاهٌ، فإِذا تلوَّنَ كالحرباءِ حسبِ المصالحِ الأَنانيَّةِ الضيِّقةِ ضارِباً القِيم والثَّوابت عَرض الحائطِ فهوَ ليسَ علويّاً أَبداً إِنَّما هوَ أَمويٌّ في نهجهِ وسلوكهِ وإِن تزيَّ بزيِّ الإِمامِ و [عِمامتهِ] فالزيُّ لا يُعبِّرُ عن المُحتوى أَبداً وهوَ ما أَشارَ إِليهِ (ع) بقَولهِ {تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ} وفي قَولٍ {وليسَ تحتَ طَيلسانِهِ} أَي زيِّهِ! فالزيُّ مظهرٌ مُخادِعٌ ما لم يثبُت العكس، ولذلك قالَ رسُولُ الله (ص) {الدِّينُ المُعامَلة} لأَنَّ حقائِق الدِّين تظهر في المُعاملاتِ وليسَ في أَيِّ شيءٍ آخر!.
ولهذا السَّبب حذَّر أَميرُ المُؤمنينَ (ع) من المُخادعينَ الذين سيعتمُّونَ بعمامتهِ للمُتاجرةِ بإِسمهِ ولإِمامتهِ قائلاً {أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوه ولَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هَذِهِ}.
وما أَكثرهُم اليَوم وفي كُلِّ يَومٍ! فلنحذَر!.
أقرأ ايضاً
- قانون هيلمز- بيرتون.. توجه العراق نحو الليبرالية الجديدة - الجزء السابع
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الخامس والعشرون
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الرابع والعشرون