
بقلم:دكتور شامل محسن هادي مباركه
مرّ العراق بمرحلتين من الإحتلال؛ الإحتلال البريطاني للعراق مطلع القرن العشرين، والاحتلال الامريكي له مطلع القرن الواحد والعشرين، لكن لم يتعظ المحتلون الجدد من تجربة المحتل الأول.
في عام ١٩١٧، و في إجابته على الاستعمار البريطاني للعراق، يقول الجنرال البريطاني فريدريك ستانلي مود: "ليس من رغبة حكومتنا أن تفرضَ عليكم مؤسسات غريبة. جيوشنا لم تأتِ إلى مدنكم وأراضيكم كغزاة أو أعداء، بل كمحررين". (راجع بحث " العلاقة الأميركية الشيعية في العراق الجديد: هل هي أفضل من العلاقة البريطانية؟، The U.S.-Shi'ite Relationship in a New Iraq: Better than the British، ويليام بيمين، صفحة ١، جامعة كولومبيا، ٢٠٠٤)
كُلِّفَت جيرترود بيل ورئيسها، بيرسي كوكس، في إدارة الحكم البريطاني في العراق بإنشاء "أمة من القماش" بالكامل تخدم المصالح الاستعمارية البريطانية (راجع وثيقة "المفوض المدني للعراق، مراجعة الإدارة المدنية لبلاد ما بين النهرين"، Civil Commissioner for Iraq, Review of the Civil Administration of Mesopotamia، من ارشيف الاستعمار البريطاني للعراق، جامعة ويسكونسن الأمريكية، ١٩٢٠)
نجحت مع رئيسها كوكس في مهمتهما. فقد أنشؤوا منطقة كردية عازلة ضد تركيا في الشمال تحت سيطرتهما، بدلاً من أن تكون دولة مستقلة. كما عيّنت حكّاماً سُنّة في بغداد، برئاسة الملك الهاشمي الأمير فيصل بن الحسين من مكة. الأهم من ذلك، أنهما أسسا لقمع الشيعة في الجنوب. وفقاً للمؤرخ تشارلز تريب، فإن الحكم البريطاني للعراق كان مزيجاً من "الحكم المباشر وغير المباشر". (راجع مقال "العراق: السابقة الإمبراطورية"، Iraq: the imperial precedent، شارل طرب، صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية، كانون الثاني ٢٠٠٣)
على مدى عقودٍ، دفعت الأكثريةُ من الشعب العراقي دماءاً غزيرة، حتى وصل إلى الاحتلال الامريكي الثاني في عام ٢٠٠٣. في عام سقوط النظام الدكتاتوري الدموي، كان شيعة العراق ينظرون إلى الأحداث من خلال الذاكرة الثقافية. "الثقافة" الحالية هي نفس الثقافة التي سادت تحت الاحتلال البريطاني مطلع القرن العشرين. تبدو أحداث اليوم وكأنها أحداث الأيام الأولى لتأسيس الحكم العراقي في ظل الأحتلال البريطاني. ينبغي أن نمُيزّ بوضوح بين ما قد نسميه "التاريخ العلمي"، الذي يتعامل مع التفسير السببي الموضوعي للأحداث، و"الذاكرة الثقافية"، حيث يتم "تذكّر" الأحداث بطريقة تخلق روابط سببية بين الحاضر والماضي، سواء كانت هذه الذكريات دقيقة أم لا.
بعبارة أخرى، كما يقول رويل مارك جيريشت في بحثه: "تعرض الشيعة في كل مكان للخداع ـ من جانب العثمانيين، والبريطانيين، والهاشميين العرب السنة، والقوميين العرب، والبعثيين، وإدارة بوش الأب، التي تركتهم يموتون ـ بعشرات الآلاف ـ عندما قمع صدام التمرد الذي أعقب حرب الخليج الأولى". يسترسل بالحديث: "ما يزيد الطين بلّة بالنسبة للشيعة في العراق أن بلادهم هي مهد التشيع، حيث يحيي المؤمنون سنوياً ذكرى مقتل الحسين، نجل الخليفة علي وحفيد النبي محمد. (راجع بحث "المواجهة مع الشيعة العراقيين بشأن الانتخابات المباشرة"، The Standoff with Iraqi Shiites over Direct Elections، صفحة ١، رويل جيريشت، زميل معهد أميركان إنتربرايز، شباط ٢٠٠٤)
تُذكِّرُنا مواقف علماء الشيعة ضد المحتل البريطاني الأسباب الموضوعية لها، وهذا ما لم تفهمه إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن عند احتلاله العراق في ٢٠٠٣، مما عرّض البلاد إلى بركان يحرق قواته، إن كانت بالمواجهة العسكرية أو بالدبلوماسية.
في أواخر نيسان ٢٠٠٤، كانت الولايات المتحدة تخبر العالم بأن العراق سوف يُمنح السيادة، ثم استدركت بأنها لن تتنازل عن السيطرة على المؤسسة العسكرية للحكومة المؤقتة المقبلة. وصف وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، مارك غروسمان، أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في الثاني والعشرين من نيسان عام ٢٠٠٣ في منح العراق السيادة بأنها "سيادة منقوصة".
وهذا ما أكده السفير الامريكي الأسبق بالعراق، رايان كروك حيث قال: "نحن متشددون بشأن نظامهم السياسي، لا يعمل حقاً من دوننا". (راجع كتاب "عام قضيته في العراق: النضال من أجل بناء مستقبل مليء بالأمل"، My Year in Iraq: The Struggle to Build a Future of Hope، پول بريمر، ٢١ تشرين الثاني ٢٠٠٦)
كما حاول الحاكم المدني، پول بريمر، تسويق الاحتلال على انه تحرير، كما رفع الإحتلال البريطانية شعار التحرير. يذكر في كتابه: "لقد ابلَغَنَا السيستانيُ بعد التحرير مباشرة، ومن خلال قنوات خاصة انه لن يقابل احداً من التحالف". لذلك بعث الحاكم المدني رسالة الى مرجعية النجف يقول فيها: اننا جئنا كقوة تحرير لا قوة احتلال"، ليُكرِر مقولة الجنرال البريطاني فريدريك ستانلي مود بعد قرن من الزمن.
لم يستطع الحاكم المدني خداع المرجع الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله. في استفتاء وجِّه الى سماحته: ما هو تعريفكم لقوات التحالف المتواجدة على أرض العراق؟
الجواب: إنها قوات إحتلال كما أقر بذلك مجلس الأمن.
(وثيقة رقم ٢١ جواب رقم ٢، كتاب "النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية" للاستاذ حامد الخفاف)، (كذلك جاء في تصريحات السيستاني لصحيفة يابانية في ١٩ تموز ٢٠٠٣)
كما سُئل السيستاني عن مدى وجود القوات الامريكية بالعراق مرارا، قال سماحته: "لا يوجد سبب معقول لوجود القوات الامريكية بالعراق"، الامر الذي لم يترك مجالاً لشرعية بقاء القوات المحتلة بالعراق، يسترسل المرجع الأعلى، "فيما اذا كانت هناك حاجة لقوات اجنبية لحماية البلاد، فيجب ان يكون تحت مظلة الامم المتحدة". (راجع سؤال لصحيفة النوفيل أوبزيرفاتور الفرنسية في ٢٩ آب ٢٠٠٣)
أثناء مناقشة إحياء الإسلام الشيعي وعودة القوى السنية المسلحة في أعقاب الإطاحة بصدام عام ٢٠٠٣، اقترح البروفيسور ولي نصر أن تتجنب الحكومة الأمريكية "المواجهة مع شيعة العراق، والأهم من ذلك، السيستاني". (راجع بحث "التداعيات الإقليمية لصحوة الشيعة في العراق"، Regional Implications of Shi‘a Revival in Iraq، بروفيسور ولي نصر، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، واشنطن ٢٠٠٤)
يسأل إسحاق نقاش: كيف لنا أن نفسر مرجعية السيستاني؟ فيُجيب "أحد التفسيرات هو رؤية السيستاني على أنه يقود إصلاحاً في القيم، ويربط الشيعة بالسياسة الديمقراطية في الشرق الأوسط، ويدافع عن السيادة الشعبية". (راجع كتاب "الوصول إلى السلطة: الشيعة في العالم العربي الحديث"، Reaching for Power: The Shi'a in the Modern Arab World، إسحاق نقاش، جامعة برنستون الأمريكية، ٢٠٠٦)
كانت المناقشة بشأن وضع القوات الأمريكية المحتلة أكثر دقة من مجرد الجدال حول مسألة السيادة. كرجل دولة، كان المرجع الأعلى يبحث في أدبيات القانون الدولي عن آليةٍ لإخراج قوات الأحتلال من العراق وإعادة "السيادة الكاملة" للعراق. ليس هناك في ذهن قوات الاحتلال أدنى شك بأن ما يقوم به السيستاني ستؤدي إلى انسحاب القوات الأجنبية.
أبدى المرجع الأعلى ممانعته لاتفاقية الإطار الاستراتيجي (SOFS) بين القوات الأمريكية و الحكومة العراقية، من خلال بياناته و خطب أيام الجمعة في الصحن الحسيني الشريف، حيث طالب بإجراء إستفتاء على بقاء القوات الأمريكية بالعراق، لكن رغبة الطبقة السياسية الحاكمة حالت دون إجراءه. كان السياسيون في بغداد يخشون من أن الرحيل الأميركي المتسرع قد يتركهم عرضة للرفض.