- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
نظرية الحقوق في الفكر الاسلامي
حجم النص
دراسة تحليلية في فلسفة الحق من سلسلة محاضراتي بقلم: أ.د. وليد سعيد البياتي توطئة: لقرون طويلة قبل الرسالة الخاتم كان المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربية تحركه الصراعات القبلية، وإمتيازات القوة والمال، والانتساب لهذه القبيلة أو تلك، إضافة الى اللون والجنس والعرق، مما ساعد في تشوء التفاوت الطبقي بين مفهمي الاسياد والعبيد، وبين الاغنياء والفقراء، وهذا الحال كان منتشراً في كل المجتمعات الانسانية في بقاع الارض، ولكن المجتمع القبلي في شبه الجزيرة العربية كانت له خصوصية جعلت الرسالة الخاتم تنزل فيه ليكون معياراً للنظام الأنساني في المستقبل. سقوط المعايير المادية: كانت مهمة الرسالة الاسلامية تقوم على الارتقاء بالمعايير الانسانية والاجتماعية، والتخلص من البعد المادي والقبلي، فوضع الله تعالى شأنه قانوناً عالمياً لتعيين حقيقة الانسان، ولتكون معيارا لعلاقته باخالق والوجود، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات: 13). وهنا نلاحظ أنه تعالى شأنه لم يقل إن أكرمكم أغناكم ولا اقواكم ولم يقل اكثركم مالاً وأولاداً، كما لم يقل أجملكم ولا اشهركم نسباً، وكل هذه المعايير مادية ولكنه تعالى قال (أتقاكم) وهذه التقوى قضية عقلية ونفسية وليست مادية وبالتالي فقد أسقط المعيار المادي. حق الانسان في الحياة: كان المجتمع العربي بمفاهية القبلية قد إسترخص حياة الانسان فأباح القتل وإفتخر بسفك الدماء، فجأت النصوص القرآنية تشدد على حفظ حياة الانسان. فقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً). (الإسراء: 33). بل أنه جعل قتل نفسأ واحدة تعادل قتل البشر وهذا لاينطبق على القتل فقط بل على الفساد وهو بمعنى الخروج عن معنى الحياة التي ارادها الله عزوجل، واي خروج عن هذا المعنى فهو فساد في الارض، بما يعني مخالفة قانون الحياة الذي وضعه الخالق تعالى شأنه. فقال عزوجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).(المائدة:32). فقيمة الإنسان تكمن في أن منشأه بالاصل جاء بالارادة الالهية في التكوين وهذه الارادة خاصة باخالق تعالى شأنه ولا يجوز لأي مخلوق أن ينسبها الى نفسه فيقتل ما خلق الله ولا يجوز التجاوز عليها لان في ذلك فساد في الارض ما نحن فيه إلا بسبب تجاوز الانسان على إرادة الخالق سبحانه تعالى. تقييم الانسان خارج الأطر القبلية الضيقة: ولما كان الامجتمع القبلي يعتمد الاقوة والقسوة في الحروب والنزاعات فقد تنامت النزعة الذكورية حتى بلغت القسوة بهم أنهم كانوا كانوا يحتقرون الانثى ويتشائمون من ولادة البنات خوفاً من سبيهن في النزاعات والصراعات القبلية وعادة السبي التي سادت في الكيان الاجتماعي الجاهلي، أو لأن البنت كانت تعتبر أقل شأنا خاصة ان المجتمع المقاتل لا يستعمل المرأة في القتال مما جعلهم يعتبرونها عبئأ متناسين أنهم أولاد ارحام وان النساء اولدتهن وانهم يتزوجون النساء، ومن هنا جاءت الايات القرآنية توبخهم وترد عليهم هذه الاراء والمواقف السلبية، واراد الله عزوجل ان يريهم ان للمرأة قيمة في الحياة والمجتمع. قال تعالى شأنه: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ). (النحل: 58) فقال: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). (التكوير: 8-9). وفي هذه الايان ليس فقط أهمية الرحمة بالانسان ولكنه رفع لشأن المرأة في البناء الاجتماعي وتبيان مكانتها بإعتبار أن الدفاع عنها من قبل الخالق تعبير عن قيمتها العليا ككيان ووجود إنساني وإجتماعي فهي الجانب الاخر من الحياة. وضع منظومة إنسانية للعلاقات: على الرغم ما إمتاز به المجتمع القبلي ببعض الصفات من كرم وشجاعة وغيرها ممن جاء الاسلام ليهذبها ويجعل لها أطر إنسانية، فان المجتمع كان يمتاز بصفات سيئة وقيم منحطة منها خيانة الامانة، والجور في الحكم وتقديم القوي على الضعيف في الاحكام حتى وإن كان الحق في جانب الضعيف والفقير، فجاءت الشريعة بأحكام توجب الامانة وتمنع الناس من الخيانات بكل أشكالها. بل انه جعل أداء الأمانات فرض وشرط من شروك الايمان، وأمر المجتمع أن ينتهج منهج العدل في التعامل بين الافراد وفي الأحكام فبدون العدل يفسد المجتمع وتفسد منظومة العلاقات. فقال: " إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ". (النساء: 58). وقال أيضا جل جلاله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ". (لأنفال: 27). ولاجل وضع منظومة إجتماعية متكاملة فانه تعالى شأنه أمر بالوفاء بالعهود والعقود بل انه جعل ذلك من شروط الإيمان وتكامله في الحياة لما لهذا الوفاء في إستمرار نظم الحياة بشكل إيجابي ولنفي اي شكل من الاشكال السلبية خاصة وان هذا الامر يتعلق بالارواح والاموال والفروج. فقال نعالى شأنه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ". (المائدة: 1). وقال أيضاً: " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ".(المؤمنون: 8). بناء المدينة الفاضلة: شكل بناء المدينة الفاضلة حلماً من أحلام الانسانية منذ العصور الأولى ولعل إفلاطون أو من تحدث عن مدينته الفاضلة وقسم بنائها الاجتماعي، غير ان كل ذلك لم يكن إلا افكار واحلام وتمنيات إنسانية في تقديم كيان المجتمع المتكامل. وكان الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله قد أمر من دخل الاسلام بإتباع كل أمر حسن والعمل بالمعروف وأول هذا الامور توحيد الله عزوجل وطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن كل منكر من فعل أو قول أو سلوك منحرف وهو بذلك يدعو الى تكوين المدينة الفاضلة التي تقوم على القيم والفضائل والمكارم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والتآخي بين الناس وبين أن ذلك هو الخير في الافعال التي أرادها الله عزوجل. فقال عزوجل: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ". (آل عمران: 110). وهذا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني تأسيس جماعة تقوم بذلك كما يفعل اتباع المنهج الوهابي الان بل، أن هذا السلوك هو سلوك عام في المجتمع لايختص بانسان دون آخر فالكل يشملهم هذا الامر الكبير والصغير والغني والفقير والقائد والمقود فلا تمييز. من هنا نرى ان قيمة المدينة الفاضلة التي دعى اليها الرسول الخاتم وأن لم يسميها بهذا الاسم ولكنها تحمل هذا المعنى والروح تكمن في بناء الافراد والمجتمع بناءً فكرياً وروحياً ونفسياً وفق المنهج الالهي الاصيل لتخليص المجتمع من الانحرافات والفساد والارتقاء به نحو المثل العليا.