جاسم عاصي
أدب الرحلات جنس ضمن الكتابة الإبداعية، شاع وجوده عالمياً وفق الرحلات والتطواف في الأماكن المعلومة والمجهولة، حيث شكّلت بطبيعة الجُهد المبذول اكتشافاً للبيئة الجديدة، تُحسب لهؤلاء الرحّالة، وبعد أن وضع له الرواد في العراق أسسه واعتباراته واسلوب الكتابة فيه اي التأكيد على وعي الضرورة، وخصائص الجنس الذاتية والموضوعية لكنه بقي جنساً يستقبل عناصر التجديد والتجريب أيضاً، شأنه شأن الأجناس الأُخرى. غير أنه حافظ على خصائصه التي تعتمد ركائز مبدئية في التخريج البنيوي فهو جنس مكاني بامتياز، يحتوي ويكتشف بالتجربة والممارسة خصائص الأمكنة ومحمولاتها، ويُسجل ما تتميّز به. فالداخل إلى المكان يكتشف بحسه الإبداعي ما لم يره الآخرون. لذا يمكن أن نطلق عليه جنس الدهشة والجمال وتدوين صورة الانبهار. كذلك أن له علاقة بتاريخ هذه الأمكنة ومجريات أحداثها والمتغيرات التي جرت عليها عبر استفتاء الآخر وسؤاله.
وبهذا تكون علاقة الجنس بالبنية الاجتماعية التي هي نتاج البنية الفكرية للمكان وحيواته، وكتاب القاص والروائي الدكتور (علاء مشذوب) ينتمي إلى دربة الكتابة من هذا النوع، فالتزم بشروطه مرّة، وابتعد عنها تارة أُخرى دون تعميق البديل، سواء الأسلوبي أو البنائي.
لكنه وبحكم التراكم الكمي، ولّد تراكماً نوعياً، يتعلق بمكتشفات ما في الأمكنة من خصائص، وما للعلاقة بين هذه الأمكنة وحيواتها الإنسانية، بأن عكس حمولاتها المتناقضة. أرى أن التوّسع والتركيز في بنية الكتابة، كفيل بأن يضع هذا الكتاب ضمن مصاف الكتب المهمة في أدب الرحلات، لقد لاحق الكاتب بالمقارنة بين ما يرى وما كان قد رأى في مكانه الأصل، وبروح نقدية خالصة، بل وطنية خالصة وعميقة، مع الاحساس بالمرارة جرّاء تخلفنا عن ركب ما يرى تأثيره على المكان المُزار. إن الكاتب إزاء نتاج حضارة قديمة هي حضارة فارس، ولهذه الحضارة تعديات على حضارات أُخرى، كما هي تعديات الدولة العثمانية، ومن
ثم الفارسية.
لذا فقد عبرت مثل هذه العيّنات إلى تحليل الشخصية الايرانية، وحصرها في مضمار تأثير حرب الثماني سنوات بين البلدين (العراق وإيران). فالحرب تخلق نوعاً من المواقف السلبية عند كلا الطرفين المتنازعين بتأثيرات خارج إرادتها السياسية، بغض النظر عمن يكون المعتدي، لكن الذي يكتب في هذا يعرف جيداً حركة التاريخ، التي خلقت علاقات سلبية أنتجت مواقف مختلفة ومرتكزة على بنية فكرية ذاتية، فإن كانت سلبية فهي من بُنات التاريخ، وإن كانت ايجابية فهي بتأثير المقدس المشترك، سواء كان عامّاً أو خاصاً يخص العلاقات والوحدات المشتركة بين الطرفين وهي الأضرحة المقدسة لدى الاثنين، والتي أفرزت تزاوراً وتواجداً ليس عابراً، أي سياحياً، بل تصاهراً وإقامة، شكّلت ظاهرة بما يشبه الاستيطان.
لأنها ارتبطت بمستلزمات الوجود العابر لما يسمى الإقامة المؤقتة باتجاه زرع الجينات الانسانية. لذا نجد ثمة عدم تعميم تاريخي للظواهر التي اكتشفها الكاتب مع من رافقه في الرحلة. إن التلوين في وصف المكان ضروري في هذا الضرب من الكتابة، فالتلوين سمة تنتمي إلى شعرية اللغة النثرية وانعكاسات خصائص الأمكنة على اللغة من جانب الإثراء اللغوي المركّز، حيث تخلق تميّزاً ليس بالتركيبة اللغوية، وإنما في تلوّن خصائص الأمكنة. وقد حاول ضمن هذا المجال في وصف ورصد جمالية المكان في الأمكنة المقدسة، لأنها قريبة من تعالقه المكاني في مدينة كربلاء حيث ترعرع وأقام. ولعل المقارنة في عمارة المكان، كالأضرحة والمساجد، وطبيعة الأزقة القديمة، أوحى بنظرة تراثية للمكان، مستلاً من مشهده أهم الخصائص، لاسيّما الطقسية منها.
فلغته في هذا الضرب من وصف المكان كان مكللاً بشعرية فيها حس ميثولوجي، خلقته ظاهرة التطبع والممارسة منذ الصبا.
كذلك حصر دهشته ببعض الأمكنة، حيث شكّلت لتصوراته منحى فكرياً وتاريخياً، استعاد بذلك ويلات الحرب والفقدان، أو الذنب التاريخي الذي ولّد عُقدا يصعب تذويبها بين الشعوب، سواء كانت الشعوب المحتلة أو الغازية.
صحيح أن التنقلات بين الأمكنة في المدن الايرانية كانت من متطلبات الزيارة وليس الرحلة. إذ لعبت في ذلك أمزجة من رافقه، فهي ليست رحلة استكشافية للمدن كبيرها وصغيرها، بل هي مجموعة تسجيلات لحراك داخل الأمكنة لعب فيها مزاج الآخر دوراً أساسياً، مما ضيّع من بين يديّ الكاتب التأني والسؤال وزيادة المعرفة لهذه الأمكنة، قصد ربط كل ما يستلزم تحليل الخاص والعام.
لكن النظرة كرحالة كانت متوّفرة كالأرض الخصبة التي هي بحاجة للعناية الدائمة والمركزة. فالكاتب لم يكن ليهدف الرحلة إلى إيران لكتابة مدوّنة إبداعية عنها، بقدر ما مارس كتابة مذكراته اليومية وهو يتجول وينتقل من مدينة إلى أُخرى برفقة أصحابه.
لقد أهتم بأصغر الأمور وأخفى أكبرها، بسبب سرعة التواجد في الأمكنة، والذي يمكن اعتبار بعضه خاطفاً مقارنة بما كان يمارسه ويجريه أقرانه وهم يجوبون المدن والأمكنة، المعلومة منها والمجهولة.
لكن الكتاب محاولة لفض صمت التاريخ عن نظرة الآخر للأمكنة والساحات والمرافق السياحية فيها. لقد نقل لنا دهشته الذاتية وهو يكتشف خصائص الأمكنة وعكس تأثيراتها على ذاته، خاصة عمارة الأمكنة التي تميّزت بخصائص العمارة الإسلامية، كذلك النُصب والتماثيل، والصوّر المعلقة في الساحات للشهداء في الحرب العراقية الإيرانية. وصل هذا حد اكتشافه لما يشبه المتحف المصغر الذي احتفى بشهداء المدينة الصغيرة التي تعرضت لقصف الطائرات العراقية. جملة أرى أن كتاب (عواصم إيران) التفاتة مهمة، سجلت انطباعات ذكية عن المكان.
أقرأ ايضاً
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة