بقلم: القاضي ناصر عمران
في واحدة من تجليات مواطن البحث عن مكامن إنتاجية العدالة كمعطى قضائي في النظام القضائي الأمريكي والمتعلق بالتخصص القضائي، ثمة محددات مهمة للنشاطات القضائية ضمن حدود السلطات القضائية وصنع القرار، ويشكل مبدأ (ضبط النفس القضائي) احد هذه المكامن والمحددات التي تقيد وتراقب سلطات القضاة الأمريكيين.
ويقوم مبدأ ضبط النفس القضائي على قواعد متعددة تستقي شرعنتها من الدستور الأمريكي ودساتير الولايات وقوانين الكونغرس وقوانين الهيئات التشريعية في الولايات والقانون العام، وبعض هذه القواعد تنطبق على محاكم الاستئناف أكثر من انطباقها على محكمة الموضوع وينطبق معظمها على الأنظمة القضائية الفدرالية وتستند الى قواعد او مبادئ تسمى بالقواعد او المبادئ العشرة وهي:
أولاً: يجب ان يكون هناك موضوع نزاع محدد: فالدستور الأمريكي ينص في المادة (الثالثة القسم الثاني) على ان (السلطة القضائية يجب ان تطال جميع القضايا في القانون والانصاف الناشئة بموجب هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة والمعاهدات التي عقدت..والتي عقدت تحت سلطاتها) بمعنى ان يكون هناك موضوع نزاع حقيقي بين خصوم قانونيين توافرت عند اقامة النزاع قضائياً جميع المعايير التقنية القانونية لرفع الدعوى، والنتيجة ان المحاكم الفدرالية لا تصدر أحكاماً استشارية حول حالات افتراضية او أوضاع لم ينتج عنها خصومة او صراع كما يجب أن يكون للأطراف في الدعوى موقف صحيح لمن يقوم برفع الدعوى الى المحكمة و المدعي يجب أن يكون قد عانى من ضرر مباشر وذي شأن او على وشك المعاناة وأيضاً المحاكم لا تنظر قضية جدلية لا تستند على واقع فلا افتراض في حضرة الجلسات القضائية.
ثانياً: يجب أن يكون الطلب لغرض معين وهذا القيد يعني أن القضاة لا ينظرون الطلب على اساس الجدارة الا اذا كان يستند الى الدستور كأساس لطلبه والتماسه.
ثالثاً: لا يحق للمستفيدين اقامة الدعوى والتي تعني ان من يستفيد من قانون ما او عمل رسمي لا يمكنه بالتالي معارضة هذا القانون او العمل الرسمي.
رابعاً: محاكم الاستئناف تحكم في القضايا القانونية لا الواقعية فمحاكم الاستئناف الفدرالية ومحاكم الولايات هذه المحاكم لا تنظر في القضايا اذا كانت اسباب الاستئناف هي ان قاضي المحكمة وهيئة المحلفين تقوم بعمل جيد وإنما لان هؤلاء هم اقرب الى الوقائع وكيفية تقييم الوقائع بمعنى ان هذه المحاكم محاكم قانون في حين ان قاضي المحكمة والمحلفين لديهم سلطاتهم التقديرية في تقييم كثير من الاجراءات الخاصة بالدعوى.
خامساً: المحكمة العليا ليست مقيدة (تقنيا) بالسوابق بالرغم من ان المحكمة العليا حرة في إبطال او تجاوز السوابق فان ذلك قد يبدوا حجة مؤيدة للنشاط القضائي وليست قيدا ًغير ان هذه الممارسة احد قيود ضبط النفس القضائي لأنه لو كان لا مفر من تقييد المحكمة العليا بالأحكام والسوابق فان ذلك يقيد المحكمة من مرونتها ورؤيتها في الدعوى المنظورة، والمحكمة من خلال ذلك تمنح نفسها حالة امان تستطيع اللجوء اليه اذا ما دعت الحاجة ذلك فعندما تملي الحكمة على المحكمة تغيير اتجاهها او على الاقل الابقاء على رؤية غير منحازة وهو الأمر الذي يضع مبدأ ضبط النفس القضائي في الاستخدام.
سادساً: يجب استنفاد الاجراءات الاخرى وهو مبدأ من مبادئ ضبط النفس فكثيرا ما يحيط الخصم قلق، مما يعني ضرورة ادارة العدل بشكل منظم فالمحاكم في الولايات المتحدة الامريكية لا تنظر الدعاوى الا بعد ان تستنفد جميع العلاجات القانونية والادارية والتي تعني في النظام القضائي الامريكي التراتبية القضائية فتأخذ شكل استئناف لدى مسؤول اداري او جلسة استماع امام مجلس او لجنة او دراسة لأمر ما على يد هيئة تشريعية.
سابعاً: المحاكم لا تقرر المسائل السياسية، فالسلطتان التشريعية والتنفيذية هي في نظر القضاة الأمريكيين خارج اختصاصاتهم في القضايا والمسائل السياسية حيث يتم اختيارهم من قبل الشعب وهم الذين يصنعون السياسة العامة، والقضاء لا يتدخل في حل المسائل السياسية.
ثامناً: عبء البرهان يقع على عاتق المدعي، كل ادعاء يقع عبء إثباته وبرهانه على المدعي الا اذا تعلق الامر في عالم الحقوق والحريات.
تاسعاً: يتم ابطال القوانين على اضيق الاسس فقد يرى القاضي ان هناك قوانين تشريعية او تنفيذية تعرضت الى هيكلية البناء الدستوري بالإساءة، عندها يكون القاضي امام خيارات ابطال الاعمال الرسمية على اسس عدم النظامية بدلا من الاسس الدستورية فالقاضي يبطل العمل رسميا لان العمل الرسمي تعدى السلطات الموكلة اليه من قبل القانون وهذا الحكم له وظيفة حماية القانون نفسه، وثانياً قد يلجأ القاضي الى ابطال جزء من القانون الذي وجدت فيه شائبة او عوار دستوري بدلا من ابطال القانون النظامي بأكمله.
عاشراً: ليس هناك من احكام تصدر تختص بحكمة التشريعات والذي يعني ان الاساس الوحيد لإعلان قانون او عمل رسمي غير قانوني هو ان انتهاك حرفي للدستور. القوانين النظامية لا تخرق الدستور لمجرد انها غير منصفة، او تشكل سياسة عامة غير صحيحة وهذا المبدأ بالمعنى الجوهري يعني ان القضاة ليس لهم حرية الرجوع الى افكارهم الشخصية الخاصة حول ما هو صالح أو طالح، والنتيجة اجمالا على الرغم من تدخل قيم القضاة الشخصية في تفسيرهم لأجزاء عديدة من الدستور، بالتقيد عمليا بانه لا يمكن ابطال قانون الا اذا خالف الدستور وليس طبقاً للرؤية الشخصية للقضاة وتفضيلاتهم.
إن مبدأ ضبط النفس القضائي الذي يعتمده النظام القضائي الأمريكي ليس بعيدا عن الصلاحيات التي ينص عليها القانون للمحاكم والقضاة ضمن صلاحياتهم القانونية والدستورية والمعمول عليه في تطبيقاتنا القضائية وان اختلف النظام القضائي العراقي عن النظام القضائي الامريكي الا ان المبادئ العامة تكاد تكون متفقة في رؤيتها وبخاصة انها تسير نحو هدف واحد وغاية واحدة الا وهو تحقيق التوازن بين السلطات واحترام مبدأ الفصل بين السلطات.
أقرأ ايضاً
- إدمان المخدرات من أسباب التفريق القضائي للضرر
- جدلية الاختصاص في ابرام الاتفاقيات القضائية
- دور الاعلام القضائي في تحقيق الأمن القانوني