- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثامن والعشرون

بقلم: نزار حيدر
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
إِنَّ الذينَ يُحاولونَ تغييرَ الدُّنيا لتكونَ على لونٍ واحدٍ ودينٍ واحدٍ ومذهبٍ واحدٍ ورأيٍ واحدٍ واهمُونَ فجهدَهُم هذا يناقِضُ إِرادة الله تعالى الذي خلقَ الخلقَ مُختلفينَ وشاءَت إِرادتهُ وقُدرتهُ لحكمةٍ ما أَن يكونُوا كذلكَ، كما في قولهِ تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وإِقرارهُ تعالى لحقيقةِ الإِختلافِ بقولهِ عزَّ مَن قائِل {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} و {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
ولذلكَ أَقرَّت الآية الكريمة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ديمومَة الإِختلاف واستمراريَّة التنوُّع إِلى يومِ يبعثونَ.
تأَسيساً على هذا الثَّابت فليسَ من الواجبِ مُكافحة الإِختلاف وإِلغاء الآخر أَبداً فذلكَ فعلُ المجانينَ الذين ينطحُونَ صخرةٌ لتحطيمِها! وإِنَّما الواجبُ هو القَبول بالإِختلافِ والإِعترافِ بالتنوُّعِ للتَّعايشِ وليسَ للتَّقاطعِ، فالمُشتركات [الإِنسانيَّة] أَكثر بكثيرٍ من الإِختلافاتِ الدِّينيَّةِ والمذهبيَّةِ والإِثنيَّةِ والفكريَّةِ وغَيرِها من العناوينِ الثَّانويَّةِ، فقالَ تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.
نحنُ بأَشدِّ الحاجةِ إِلى البحثِ عن {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} فهي حصراً التي تحرِّضنا على قَبول الإِختلاف والتنوُّع للتَّعايش في إِطارِ حوارٍ إِنسانيٍّ منطقيٍّ وعقلانيٍّ {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
فمَن أَنتَ لتظنُّ بقُدرتِكَ على فرضِ لونٍ واحدٍ على البشريَّةِ؟! وفي أُسرتِكَ الخِلافُ بيِّنٌ في كُلِّ شيءٍ حتَّى في المأكلِ والملبسِ والمركبِ فضلاً عن الأَفكارِ؟! ومَن أَجازَ لكَ ذلك ومنحكَ التَّفويضَ لفعلِ ذلكَ؟!.
لقد رحلَ رسُولُ الله (ص) وفي مُجتمعِ المدينةِ كُلَّ أَنواعِ وأَشكالِ الخلفيَّاتِ الدينيَّةِ والفكريَّةِ حتَّى في داخلِ [الجماعةِ المُسلمةِ] كانَ الإِختلافُ واضحاً طفحَ في خلافاتِها في السِّياسةِ والحُكمِ، وتُريدُ أَنتَ توحيدِ الرُّؤية والأَفكار والولاءات؟!.
لنقرأَ قَولَ الله تعالى بإِمعانٍ لنكتشِفَ حقيقةً مُهمَّةً، يقولُ تعالى {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} والآيةُ تتحدَّثُ عن النَّاس، كُل النَّاس، وليسَ عن فِئةٍ محدَّدةٍ، وهي إِشارةٌ واضِحةٌ إِلى أَنَّ الله تعالى هو مَصدر الرَّحَماتِ لخلقهِ، بغضِّ النَّظرِ عن إِيمانهِم بهِ أَو كُفرهِم، فكيفَ تُجيزُ لنفسِكَ أَن تسعى لتوحيدِ دينِ النَّاسِ واتِّجاهاتِ عقائدهِم أَو حتَّى طريقةِ تفكيرهِم ومُعتقداتهِم لتُحلِّلَ أَو تُحرِّمَ عليهمُ [النِّعمةَ]؟!.
إِنَّ الله تعالى وهوَ الخالقُ المُتعال، لا يشترِط الإِيمان على العبدِ ليمدَّهُ بأَسبابِ الحياةِ والتنعُّمِ بها كما في قولهِ تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا* كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}.
وفي قولهِ تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} ولذلكَ فليسَ من حقِّ أَحدٍ أَن يُحدِّدَ هويَّات المُستفيدينَ ويبخسُ النَّاسَ خَياراتهُم مازال الله تعالى لم يشأ ذلكَ لحكمةٍ أَو لرحمةٍ!.
سيَّانِ إِذن في التعرُّضِ لعطاءِ الله تعالى مَن سعى للدُّنيا ومَن سعى للآخرة، فبأَيِّ حقٍّ يتدخَّل العباد في تحديدِ هويَّةِ النَّاسِ قبلَ تعرُّضهِم لعطاءاتِ الله تعالى؟! وصدقَ الذي قالَ {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا}.
فالحمدُ لله ربِّ العالمينَ الذي لم يفوِّض، بحكمَتهِ ورحمتهِ، أَيّاً من عبادهِ الهواءَ والحياةَ والموتَ والرِّزق، وإِلَّا لرأَينا كيفَ يتصرَّف هؤُلاء بالمنعِ والإِعطاءِ على أَساسِ الولاءِ لهُم وبمعيارِ اعتقادِ النَّاسِ بما يعتقدُونَ بهِ هُم على طريقةِ فرعونِ الذي قالَ {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
حتَّى التحكُّم في النَّتيجةِ فإِنَّ الله تعالى يقولُ في مشيئتهِ {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} وقد سلَّمَ الرُّسُل والأَنبياء بذلكَ {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
٣/ الشَّيءُ الثَّالث الذي لا يُناقسنا عليهِ أَحدٌ هو الكلامُ والبحثُ والنِّقاشُ والجِدالُ والحِوارُ في الأَديانِ والمذاهبِ، نُصحِّحُ ونخطِّئُ، نقيِّمُ ونفسِّقُ، ونقبلُ ونردُّ، ونُصادِرُ ونحتكِرُ {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
والله تعالى يقولُ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
لا أَحدَ في هذا العالَم مشغُول في الحديثِ عن [الدِّينِ] وفي [الدِّين] مثلنا لدرجةٍ أَنَّ أَكثر السَّاسة عندنا يحمِلونَ شهاداتهِم العُليا بتخصُّصاتٍ تدُورُ حَول الدِّين والمذهب والقُرآن الكريم والحديث وما إِلى ذلك! وهُم أَكثرهُم فساداً ولصوصيَّةً وسرِقةً للمالِ العام وللوقتِ!.
والملاحظُ أَنَّ كُلَّ الشَّعبِ مُنخرِطٌ في هذا الجدالِ ويحمِلُ همَّهُ وشاغِلٌ بالهُ بهِ! حتَّى الجاهِلَ الذي لا يعرِف كيفَ يسبِغ وضوءهُ تراهُ يجادِلُ في ذلكَ {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} حتَّى خسِرنا الماضي والحاضر والمُستقبل، وخسِرنا الدِّين والدُّنيا وأَخشى أَن نخسرَ الآخِرة!.
حتَّى توقيت اليَوم الآخِر [السَّاعة] يتدخَّلونَ ويناقشُونَ فيهِ والله تعالى يقولُ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
وبذلكَ فقد تعطَّلت طاقات الشَّباب وعقُول النَّشء الجديد وهوَ يبحثُ عن [علاماتِ الظُّهورِ] فبدلاً من أَن تتفجَّرَ هذهِ الطَّاقات وتنخرِطَ في طلبِ العلمِ والمعرِفةِ للمُساهمةِ في عمليَّاتِ البناءِ والإِعمارِ الحضاريَّة والتَّاريخيَّة تراها ضائِعةً ومُبعثرةً وهي تبحثُ عن أَمرِ ليس لأَحدٍ فيهِ دخلٌ أَو إِرادةٌ فهو فِعلُ الله تعالى ومشيئتهُ فحسب كما في مُحكمِ كتابهِ الكريم {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
وبينَ أَن نعيشَ في الماضي السَّحيقِ أَو المُستقبلِ العميقِ ضيَّعنا الحاضر!.
تسمعُ عن الدِّينِ في المساجدِ ومن على المنابرِ وفي خُطبِ السَّاسةِ وفي وسائلِ التَّواصُلِ الإِجتماعي ولكنَّكَ لا تجِد الدِّين في العلاقاتِ الأُسريَّة والإِجتماعيَّة ولا تتحسَّسهُ في السُّوقِ والمدرسةِ والشَّارعِ ومحلِّ العملِ، ولا تلمسَ آثارهُ في السِّياسة والإِدارة والإِقتصاد وفي الإِعلامِ.
فالدِّينُ الذي هو [مُعاملة] إِقتصرَ على الخُطَبِ والدِّعاياتِ الإِنتخابيَّةِ! وأَنَّ الدِّينَ الذي هوَ لخدمةِ الإِنسان وتَوعيتهِ وتبشيرهِ وتحذيرهِ تحوَّل إِلى مُخدِّرٍ لغسلِ الأَدمغةِ ولتضليلِ الرَّأي العامِّ وتبريرِ الظَّواهرِ السَّلبيَّةِ كالفسادِ المالي والإِداري وإِلى عاملِ هدمٍ بسببِ التَّمييزِ الدِّيني والطَّائفي والإِتِّجارِ بهِ لأَغراضِ الدُّنيا الضيِّقة والتَّافهة والله تعالى يقولُ {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وصدقَ الحُسينُ السِّبطِ (ع) الذي قالَ {النَّاسُ عبيدُ الدُّنيا والدِّينُ لعِقٌ على أَلسنتهِم، فإِذا مُحِّصُوا بالبلاءِ قلَّ الدَّيَّانُونَ}.
أَلم يقُل ربُّ العزَّةِ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
أقرأ ايضاً
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثلاثون والأخير
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء التاسع والعشرون
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء السابع والعشرون