- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء التاسع والعشرون

بقلم: نزار حيدر
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}.
تتجلَّى ظاهرة التَّلاوم تحديداً وتنتشِر في زمنِ الفشلِ والهزيمةِ والتعثُّرِ، ليسَ على مُستوى الإِنسان المُجتمع، وإِنَّما كذلكَ على مُستوى الإِنسان الفرد، ولذلكَ قيلَ أَنَّ للإِنتصارِ مليون أَب أَمَّا الهزيمةُ فيتيمَةٌ، لأَنَّ كُلَّ واحدٍ يسعى للهربِ من المسؤُوليَّة وأَن لا يتحمَّل مِنها شيئاً، فيظلُّ يلف ويدُور باحثاً عن شمَّاعة أَو كبِش فداء يرمي عليهِ مسؤُوليَّة الفشَل، ولقد عدَّ المُشرِّع هذهِ الظَّاهرة جريمةٌ لا تُغتفر كما في الآيةِ الكريمةِ {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
والذي يتعوَّد على حالةِ التَّلاوم في الدُّنيا يستصحبَها معهُ في الآخرة كما في قولهِ عزَّ وجلَّ {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقولهُ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
والمُتلاومُونَ عادةً يضمرُونَ الحقائِق التي يعرِفُونها {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ} في أَنفسهِم ويُظهِرُونَ عكس ذلكَ، فهُم يعرفُونَ جيِّداً حجمَ المسؤُوليَّة التي يتحمَّلونَها عندَ الفشلِ والهزيمةِ كما أَنَّهم يعرفُونَ تقصيرهُم وأَينَ هي مكامِن الخطأ الذي ارتكبُوهُ والعجز الذي أُصيبُوا بهِ وخِداع الذَّات الذي عاشُوهُ وتلذَّذوُا طعمهُ فترة الإِنتصاراتِ الوهميَّة! والذي أَنتجَ الفشلَ والهزيمَة إِلَّا أَنَّ الخَوف من تحمُّلِ العواقبِ الوخيمةِ أَو العقابِ أَو الخوفِ من العار الذي سيُلاحقهُم أَجيالاً هو الذي يحُولُ بينهُم وبينَ الإِعلانِ عن مسؤُوليَّتهم ولَو بالحجمِ والمقدارِ المعقُول وهي أَسبابٌ تمنعهُم من الإِشهارِ عن دَورهِم في الهزيمةِ التي تلحَق بالجماعةِ أَو بشخصهِ، لا فرقَ، وإِلَّا {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}.
لذلكَ كُلَّهُ يبذلُ المُتلاوِمُونَ أَقصى الجُهد لقلبِ الحقائقِ أَو إِخفائِها لتحويلِ الهزيمةِ المُدوِّيةِ إِلى انتصارٍ تاريخيٍّ لا مثيلَ لهُ!.
من اللَّازمِ المُؤَكَّد أَن نتعلَّمَ كيفَ نتحمَّل مسؤُوليَّتنا في الفشلِ كما نحبُّ ونعشقُ أَن يُشارَ لنا بالبنانِ وعلى رؤُوسِ الأَشهادِ إِذا كانَ لنا دورٌ في إِنجازِ المهمَّة وتحقيقِ النَّجاحِ والإِنتصارِ.
إِنَّها ثقافة الإِسراع في تحمُّلِ المسؤُولية، مهما كانَ دورَنا في الإِنتصارِ أَو في الهزيمةِ، لنتحلَّى بالإِنصافِ على أَنفسِنا وعلى غيرِنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
فمنَ الشَّهادة بالقِسطِ الإِعتراف بالمسؤُوليَّةِ في النَّصرِ وفي الهزيمةِ على حدٍّ سواءٍ، فإِذا رأَيتَ [المسؤُول] يُقيمُ الدُّنيا ولا يُقعِدها إِذا كانَ لهُ دورٌ في تحقيقِ النَّصرِ لكنَّهُ يخنس فيبلعُ لسانهُ ويُخفي رأسهُ في التُّرابِ كالنَّعامةِ أَو يتلاعب بالأَلفاظ ليهربَ إِذا كانَ لهُ دورٌ في الهزيمةِ، فليس ذلكَ من الشَّهادةِ بالقسطِ والعدلِ أَبداً وهوَ خِلافُ الإِنصافِ الذي هوَ تَوأَمُ الدِّينِ كما في الحديثِ الشَّريفِ {مَن لا إِنصافَ لهُ لا دِينَ لهُ}.
لقد تحدَّث القرآن الكريم كثيراً عن هذهِ الثَّقافة وإِن كانت صعبةً على النَّفسِ البشريَّةِ إِلَّا أَنَّ التَّحلِّي بها هو مِفتاحُ الإِستقرار النَّفسي والثَّبات المادِّي وبِناء الثِّقة وعلى المُستويَينِ الشَّخصي ومُستوى الجماعَة وبعكسِها يتشتَّت المُجتمع وتتوزَّع الأَفكار وتختلِف الأَهواء وتُشرِّق وتُغرِّب التَّفسيرات ولذلكَ تضيع الحقائِق في زحمةِ كُلِّ ذلكَ وهو الأَمرُ الذي يُنتِجُ القلَق والفَوضى وانعدامِ الثِّقةِ في المُجتمعِ.
يقولُ تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} و {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} و {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
إِنَّ تحمُّل مسؤُوليَّة الهزيمةِ [المادِّيَّةِ] يقِفُ بوجهِ تحوُّلهِا إِلى [هزيمةٍ نفسيَّةٍ] وهوَ أَمرٌ في غايةِ الأَهميَّةِ والخطُورةِ في آنٍ.
يلزَم أَن نتعلَّمَ تحمُّل مسؤُوليَّة ما نسمعهُ ونُصغِ إِليهِ وما نراهُ ونُتابعهُ وما ننوي ونفكِّر فيهِ ونعتقدُ بهِ ونُقرِّرهُ، فكلَّما ترسَّخت في نفوسِنا هذهِ الثَّقافة كلَّما زادَ حذرَنا قبلَ أَن نُدلي بدَلوِنا أَو نقدِّم مُقترحاً أَو نُصدِرُ أَمراً، وبذلكَ سنحسِب لكُلِّ خُطوةٍ حسابها ثمَّ نتوِّج كُلَّ ذلكَ باستعدادِنا النَّفسي والرُّوحي والمادِّي لتحمُّلِ العواقِبِ حُلوةً كانت أَو مُرَّةً، وهُنا بالضَّبط تتجلَّى الرُّجولة والشَّهامة والشَّجاعة والثِّقة بالنَّفس.
أَقولُ؛ بدلاً من التَّلاوم وسعي الكُل رمي مسؤُوليَّة الهزِيمة والفشَل على بعضهِم، أَقترح ما يلي:
١/ أَن يعترِفَ كُلَّ واحدٍ بحجمِ دَورهِ في الهزيمةِ، مهما كان صغيراً أَو كبيراً من دونِ ضحكٍ على الذُّقونِ ومن دونِ تبريرٍ وتهرُّبٍ مهما كانَ شِكلهُ!.
٢/ بدلاً من أَن تقضي الجماعة وقتَها الثَّمين في التَّلاوُمِ ينبغي عليهِم أَن يتحمَّلُوا المسؤُوليَّة للإِنتقالِ فوراً إِلى المرحلةِ الثَّانيةِ وهي أَن يبحثُوا ليحدِّدُوا أَسباب الفشَل وعوامِل الهزيمة ومن ثمَّ ليتعاونُوا على تجاوُزِها ومُعالجةِ آثارِها السَّلبيَّةِ [المُدمِّرة] قبلَ فواتِ الأَوان.
إِنَّ التَّأخيرَ في الإِنتقالِ السَّريعِ من مرحلةٍ لأُخرى يكرِّس الهزيمة ويعمِّق الفشَل ولا يُساعد على فعلِ شيءٍ يغيِّر المُعادلة، خاصَّةً إِذا كانت الهزيمةُ مُدوِّيةً والفشلُ كبيرٌ!.
٣/ وبرأيي فإِنَّ العامل المُهم الذي يُساعد الجماعة على كُلِّ ذلكَ هو مبدأُ الإِنسجام، فكُلَّما كانت الجماعةُ منسجِمةً فكريّاً وعقديّاً ومُنسجِمةً في المُنطلقاتِ والأَهدافِ والأَدواتِ كلَّما كانت أَقرب إِلى تنفيذِ الخَطوات أَعلاهُ وبسُرعةٍ قُصوى قبلَ أَن تفلِتَ الأُمورُ من يدِها، والعكسُ هو الصَّحيحُ فإِذا كانت الجماعةُ غَير مُنسجمةً في شيءٍ فالتَّلاومُ فيما بينِها هو سيِّدُ الموقفِ وهو الذي يطفُو على السَّطحِ ليتحوَّل إِلى خلافاتٍ واختلافاتٍ ورُبَّما إِلى تسقيطٍ وتطهيرٍ وتشهيرٍ وحرُوبٍ.
كتبَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر يحثُّهُ على تحمُّلِ المسؤُوليَّة على كُلِّ حالٍ وعدمِ التَّفكيرِ بالتهرُّبِ منها أَو رميِها على غيرهِ فإِنَّ ذلكَ خلاف الإِنصاف والمرُوءة.
يقولُ (ع) {أَنْصِفِ اللَّه وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيه هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ! ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّه كَانَ اللَّه خَصْمَه دُونَ عِبَادِه ومَنْ خَاصَمَهُ اللَّه أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وكَانَ لِلَّه حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ، ولَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّه وتَعْجِيلِ نِقْمَتِه مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّه سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ}.
فبتحمُّلِ المسؤُوليَّة فقط ينزِعُ المسؤُول أَو يتوبُ من الفشلِ والهزيمةِ والخطأ والذَّنبِ وهي أَنواع الظُّلم الذي يمارسهُ بحقِّ رعيَّتهِ.
ويضيفُ (ع) في عهدهِ {وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ}.
أقرأ ايضاً
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثلاثون والأخير
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثامن والعشرون
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء السابع والعشرون