- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثلاثون والأخير

بقلم: نزار حيدر
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
عقليَّةٌ سخيفةٌ وطريقةُ تفكيرٍ مُتحجِّرةٍ وذلكَ لسببَينِ:
١/ يظنُّ صاحبها أَن الله تعالى يُباشرُ كُلَّ شيءٍ بنفسهِ ناسياً أَو مُتناسياً أَنَّهُ عزَّ وجلَّ عندما خلقَ الخلق جعلَ حاجاتهُم عندَ بعضهِم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} فجعلهُم خُلفاءَ وأُمناءَ ومسؤُولونَ.
كما أَنَّهُ تعالى جعلَ الأَشياءَ تمشي ويتمُّ إِنجازها بأَسبابِها لحكمةٍ عميقةٍ {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} و {فَأَتْبَعَ سَبَبًا}.
وأَنَّ قولهُ عزَّ مِن قائل {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} دليلٌ واضحٌ على ذلكَ.
ولو أَنَّ فكرةَ هؤُلاء كانت سليمةً لكانَ رأيَ بني إِسرائيل عندما قالُوا لنبيِّ الله موسى (ع) {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} صحيحةً كذلكَ، فلماذا يطلُب منهُم الرَّسول أَن يقاتلُوا القومَ الجبَّارين ليدخلُوا المدينةَ في الوقتِ الذي بإِمكانِ موسى (ع) فعلَ ذلكَ مع ربِّهِ وبلمحٍ بالبصرِ {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}؟!.
وهكذا تسري الفِكرة السَّخيفة على كُلِّ شيءٍ في الحياةِ، على العلمِ والإِعمارِ والإِكتشافاتِ العلميَّة والتطوُّر البشري والصِّحَّة والتَّعليم وفي كُلِّ شيءٍ، أَوليسَ الله قادرٌ على فعلِ كُلِّ ذلكَ {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}؟! فلماذا يُساهم البشرُ بإِنجازِ ذلكَ؟!.
٢/ يظنُّ أَنَّ ما يكسِبهُ من خيرٍ إِنَّما هوَ بقُدراتهِ الذاتيَّةِ الخارقةِ وبذكائهِ الحادِّ وجهدهِ الذَّاتي {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ} فلماذا يُقاسم الآخرينَ ما يملكُ من مالٍ مثلاً؟! ناسياً كذلكَ أَو مُتناسياً بأَنَّ للغيبِ دورٌ فيهِ يلزَم أَن لا يغفلَ عنهُ أَو يتجاهلهُ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
إِنَّ كُلَّ فردٍ في المُجتمعِ، أَيَّ مُجتمعٍ، يُؤَثِّر ويتأَثَّر، فليسَ هناكَ مِن امرئٍ يؤَثِّرُ فيهِ ولا يتأَثَّر، أَو بالعكس، أَبدا،ً ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ مبدأ [التَّكافُل الإِجتماعي] معمولٌ بهِ في كُلِّ المُجتمعاتِ وبنسَبٍ مُتفاوتةٍ سواءً آمنَ المجتمعُ بالله تعالى أَم لم يُؤمنُ بهِ وسواءً كانَ مُجتمعاً إِيمانيّاً بمعنىً من المعاني أَم لم يكُن كذلكَ، فالتَّكافُل، سواءً كان حكوميَّاً تتحمَّل مسؤُوليَّتهُ الدَّولة أَو أَهليّاً يتحمَّل مسؤُوليَّتهُ المُجتمع، مبنى العُقلاء دافعهُ العقل والمنطِق والمصلحَة العامَّة فضلاً عن الدَّافع الدِّيني والأَخلاقي والإِنساني.
إِنَّ قضايا الفَقر والجهل والمرَض وانعدامِ الأَمن والفسادِ والمُخدِّرات والشُّذوذِ وغيرِها من الأَمراضِ الإِجتماعيَّةِ تعملُ في المُجتمعِ وتؤثِّر فيهِ بنظريَّةِ الأَواني المُستطرقة {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} فأَنتَ لا تستطيع أَن تحمي نفسكَ من الفقرِ إِذا لم تُساعد على تقليصِ الفجوةِ الإِقتصاديَّةِ بين النَّاسِ ومُكافحةِ الطبيقَّةِ الإِجتماعيَّةِ، وليسَ بإِمكانكَ أَن تُكافحَ الجهلَ عن أُسرتِكَ إِذا لم تُساهم في نشرِ العلمِ وتقليلِ نسبةِ الجهلِ والأُميَّة وكذا ليسَ بإِمكانكَ حمايةَ نفسِكَ أَمنيّاً إِذا لم تُشارك في إِشاعةِ الأَمنِ المُجتمعي في البلادِ، وأَنتَ لا يمكنكَ أَن تُقاتِلَ لحمايةِ نفسِكَ من المرضِ إِذا لم تُساهم في نشرِ الصحَّة في المُجتمع، ولذلكَ شرَّعَ الله تعالى [الزَّكاة] بمعناها الأَوسع وليسَ بالمعنى اللُّغوي الحرفي ليبذِلَ الغنيُّ ممَّا أَغناهُ على الفقيرِ الذي لا يملكَ من ذلكَ.
وبهذهِ الفلسفة يتحقَّق مبدأ [التَّمكينُ] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}.
وإِلى ذلكَ أَشارَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ {لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وزَكَاةُ الْبَدَنِ الصِّيَامُ} فأَنتَ بالزَّكاةِ تحمي نفسكَ أَوَّلاً ثُمَّ المُجتمع، كما في قولهِ (ع) {سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِ}.
فليسَ بالضَّرورة أَن يكونَ الإِنفاقُ بالمالِ وإِنَّما قد يكونُ بالعلمِ والمعرفةِ ونشرِ الحقيقةِ والخبرةِ والتَّجربةِ والإِستشارةِ وفي كُلِّ ما يُمكِنُ أَن يسُدَّ حاجةً في المُجتمعِ ويملأَ فراغاً، وبهذا المعنى تكونُ الزَّكاةُ أَحسنَ وأَفضلَ طريقٍ لتحقيقِ التَّكافُلِ الإِجتماعي {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}.
أَمَّا الإِنفاقُ بالمالِ كما في قولهِ تعالى {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} فهو بالتَّأكيد يُساهم في كُلِّ العناوين التي ذكرناها أَعلاهُ، مكافحة الفقر والجَهل والمرَض وانعدامِ الأَمنِ وغيرِها.
والإِنفاقُ يكونُ على نوعَينِ، ولتوضيحِ الفكرةِ نضرِبُ مثلاً بالمُساهمةِ في مساعدةِ فقيرٍ لانتشالهِ من حالةِ العوَز المادِّي؛
فتارةً أَنت تعطيهِ مالاً ليُنفِقَ على نفسهِ وعلى عِيالهِ، وتارةً تقدِّم لهُ مشورةً إِقتصاديَّةً أَو ماليَّةً تُمكِّنهُ من بناءِ مشرُوعٍ إِقتصاديٍّ يدرُّ عليهِ وعلى عيالهِ مالاً طُوالَ العامِ.
وهكذا هوَ الأَمرُ على مُستوى مُكافحة الجَهل والمرَض وانعدامِ الأَمنِ، وأَنَّ كُلَّ هذهِ الحالات لا علاقةَ لها بالخلفيَّةِ الدينيَّةِ أَو المذهبيَّةِ مثلاً ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ مُعالجةَ القُرآن الكريم ومدرسة أَهل البيت (ع) إِعتمدت الخِطاب الإِنساني [النَّاس] وليسَ الدِّيني أَو الإِيماني، لأَنَّ مثلَ هذهِ الظَّواهر السلبيَّة في المُجتمعِ تضرُّ بالمرءِ بغضِّ النَّظرِ عن خلفيَّتهِ.
حتَّى في الحُبِّ والكرهِ يوصي أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بأَن لا يقتصِرَ الأَمرُ على الذَّاتِ وإِنَّما ينبغي أَن يشمِلَ الآخرينَ كذلكَ، وهوَ (ع) يُكافِحُ بذلكَ الأَنانيَّة وينتزعَها من نفوسِ المُجتمعِ، وفي نفسِ الوقتِ هو نوعٌ من أَنواعِ الحثِّ على التَّكافُلِ الإِجتماعي ولَو بأَضعفِ الإِيمانِ.
ففي وصيَّتهِ (ع) لولدهِ الحسَن السِّبط (ع) كتبَها لهُ بحاضرينَ عندَ انصرافهِ من صفِّين {يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وبَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ واكْرَه لَه مَا تَكْرَه لَهَا ولَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ واسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُه مِنْ غَيْرِكَ وارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاه لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ ولَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ ولَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ}.
أقرأ ايضاً
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء التاسع والعشرون
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثامن والعشرون
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء السابع والعشرون