يتعرض هور الصليبيات الواقع في قضاء الخضر (65 كلم جنوب السماوة مركز محافظة المثنى)، إلى تجفيف جائر، بعد إحالته للاستثمار وتحويله من مسطح مائي طبيعي، إلى “محمية خاصة” دون أية معايير بيئية.
في البداية تراجعت مياه الهور المذكور جراء تناقص المصادر المغذية له، والتي تأثرت بشدة بآثار الاحترار والتبخر والجفاف غير المسبوق الذي يشهده العراق، وعلى الرغم من كل ذلك، بقيت قناة “جنابية الصليبيات” والتي تم شقها من نهر “العطشان” المتفرع من نهر الفرات، تغذي الهور وتبقيه نابضا بالحياة، بعد أن كان يعتمد بشكل رئيس على مياه السيول القادمة من السعودية، ومن الجداول المتفرعة من نهري دجلة والفرات أثناء الفيضانات.
يلقي هذا التحقيق الضوء على الأسباب البشرية التي ساهمت في تجفيف هور الصليبيات الواقع في بادية المثنى الجنوبية، ما تسبب بحدوث أزمة بيئية أثرت على السكان المحليين والتنوع الأحيائي في المنطقة، خاصة وأن أغلب سكان قضاء الخضر على بعد 30 كلم من الهور، وناحية الدراجي وقرى عين صيد تعتمد بشكل رئيس على الهور في معيشتهم واقتصادهم المحلي.
بحسب أبو سجاد الريشاوي، وهو واحد من صيادي السمك الذين تأثرت مصادر أرزاقهم بسبب تجفيف الهور، حيث كان يعتمد عليه مربو الجواميس وصيادو الأسماك والمزارعون، لكن نمط السكان المحليين تغير جراء قرار مفاجئ عام 2015، حيث تم بموجبه تأجير الهور وخصخصته دون أية معايير بيئية، ما أدى إلى السطو على نحو ثلاثة أرباع المسطح المائي، وحرمان السكان من مصدر عيشهم، ومنذ ذلك الحين إلى الوقت الحالي يُمارَس في الهور أشد أنواع الإجرام البيئي”.
استثمار مريب يشوبه الفساد!
تقدم عضو مجلس محافظة المثنى زينب حسن التوبي، رواية مفادها، أن “دائرة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة منحت عقدا غير قانوني لمستثمر في هور الصليبيات لمدة عشر سنوات، وذلك في عام 2015، حيث حصل تأجير الهور على الرغم من اعتراضات وزارة البيئة ووزارة الموارد المائية، والحكومة المحلية في المثنى في الدورة السابقة، وقد تحول الهور جراء هذا العقد من شريان حيوي للصيادين والمزارعين إلى مستنقعات صغيرة، بينما كان من المفترض أن يهدف التأجير إلى تطوير الهور وحماية نظامه البيئي”، مشيرة إلى أن “المستثمر حصل على العقد بطرق غير قانونية عبر العلاقات والمحسوبيات”.
وتقول التوبي، في سردها عن تأجير الهور، إن “المستثمر قام بتجفيف الهور عمدا، كي يحصل على تعويضات من الدولة، وقدم شكوى يطالب فيها بتسديد الوزارة له مبالغ تُقدّر بمليار دينار كتعويضات عن هذا الجفاف، متهماً وزارة الموارد المائية بقطع حصة المياه عن الهور”.
وقد تم إلغاء العقد من قبل وزارة الزراعة في الآونة الأخيرة، لأن المستثمر لم يلتزم بوعوده، إنما يصر قسم الثروة الحيوانية على عدم فسخ العقد قبل أن يسدد المستثمر الأموال التي تُقدّر بحوالي 350 مليون دينار عراقي، بحسب عضو المجلس.
من جانبه، يتهم أبو سجاد الريشاوي، وزارة الزراعة والمستثمر بالفساد، وكذلك رئيس مجلس المحافظة السابق، كونه ابن عم المستأجر (المستثمر)، إذ ينقل عن محافظ المثنى السابق فالح سكر الزيادي، قوله لأهالي الهور أثناء احتجاجهم على عملية الاستثمار “أُجبرت على التوقيع بسبب العلاقات (القرابية)”.
ويقول الريشاوي، “طالبنا بحقوقنا من جميع المحافظين والمسؤولين، وتوجهنا إلى وسائل الإعلام وغيرهم، وتشهد الطلبات والكتب الرسمية على ذلك، لكن وعودهم كانت كاذبة”.
كان الهور كما يروي الريشاوي، يغذي منطقة عين صيد، بالأسماك والزراعة، ويستفيد منها المزارعون في زراعة الحنطة والشعير وحتى النخيل، كما كان يستفيد منه البدو الرحل، “كان الهور مفتوحا، وكنا نرى الماء على بعد أكثر من ثلاثة كيلومترات ولم يجف الهور إلاّ في عام 2016 جراء جفاف حاد، ولكن ما يحصل الآن هو تجفيف مفتعل عبر اتفاقية مع دائرة الموارد المائية في النجف لغلق وفتح ناظم (داير عشرة) الذي يغذي نهر العطشان”.
بناءً على السرد الذي يقدمه الصياد الجنوبي، تم تحويل الهور من بيئة طبيعية إلى منتجع شخصي، حيث جعل المستثمر من الهور مزرعة خاصة به، عامدا إلى تجريفها وبناء سواتر حولها وفتح قنوات لتصريف المياه. ولم يُترك للصيادين سوى مساحة تبلغ حوالي 25 بالمئة فقط من الهور، بقي فيها الصيادون مطاردين ومحاربين من قبل المستأجر في ظل ظروف معيشية صعبة.
وأدت هذه الخصخصة الجائرة بحق منطقة طبيعية إلى إلحاق أضرار اقتصادية كبيرة بسكان المحليين وموارد عيشهم، وكذلك التنوع الأحيائي، فطالما استقطب الهور أعدادا كبيرة من الطيور المهاجرة، ناهيك عن الطيور المقيمة. بحسب معلومات استقتها معدة هذا التحقيق من السكان المحليين، حيث تضرر أكثر من 5000 رأس جاموس في محافظة المثنى، كما أدى إلى فقدان حوالي 2000 صياد مهنتهم، ما أدى إلى ارتفاع سعر الكيلوغرام الواحد من السمك إلى 10 آلاف دينار بينما لم يتجاوز السعر 2000 دينار قبل السطو على البحيرة، إذ كان السمك يغطي حاجة مدينة السماوة والمدن الأخرى القريبة.
الأسباب والتأثيرات
من جانبه، يقول مدير دائرة البيئة في محافظة المثنى يوسف سوادي، بأن “مشكلة جفاف الهور، تعود أساسا إلى عدة عوامل متداخلة تبدأ من تأثير التغير المناخي، حيث تُعتبر المثنى ثاني أكثر محافظة تأثرا بعد البصرة، وكذلك عدم كفاية الحصة المائية المخصصة لإيصال المياه إلى الهور، إلا أن تصرفات المستثمر كانت السبب الرئيس وراء تدهور حالة الهور اليوم”.
ويسترسل سوادي، “وجهت الدائرة كتبا رسمية إلى وزارة الزراعة والأمانة العامة لمجلس الوزراء، حيث أعلنت فيها رفضها القاطع لتأجير الهور، ومتابعة وضعه والسعي لإدراجه ضمن شبكة المحميات الطبيعية، ومع ذلك، قامت وزارة الزراعة بتأجير الهور لمستثمر قام بتغيير معالمه من خلال بناء سدود ترابية ومنع المياه عن مناطقه”.
وقد ترك ذلك بحسب سوادي أثرا اقتصاديا كبيرا، ذلك أن هور الصليبيات يعد مصدرا مهما للدخل وموردا اقتصاديا لا غنى عنه لتوفير لقمة عيش للعديد من أبناء المثنى التي تعيش واقعا اقتصاديا سيئا.
ويستعرض سوادي، الأثر الكبير على التنوع الأحيائي في الهور الذي تقصده الطيور المهاجرة في فترة التزاوج والتكاثر. لقد أدت زيادة المعدات والآليات في المنطقة إلى صعوبة تواجد الطيور واستقرارها، حيث تحتاج هذه الأنواع المهاجرة إلى أجواء هادئة ومريحة للبقاء في المستنقعات المائية، إضافة إلى ذلك، توسعت دائرة الصيد الجائر لطيور (طائر الصياد، العصافير، القنابر والنوارس) كانت تقصد المنطقة آتية من روسيا، جورجيا، وأمريكا، ويعد الهور محطة استراحة للعديد من الطيور في طريقها إلى إفريقيا، كما اختفت الأسماك المحلية مثل البني والشبوط والحمري بسبب استخدام الصيد بالسموم والكهرباء.
ويحمّل سوادي، وزارة الموارد المائية مسؤولية عدم إدراج هور الصليبيات ضمن الأهوار الطبيعية في قائمة التراث العالمي، عازيا الأمر إلى “اعتباره منخفضا صناعيا، بالرغم من تقاريرنا التي اعتبرته منطقة طبيعية”، مبينا “وفقا لنظام المحميات رقم 3 لسنة 2014، التي تنص على تخصيص 13 بالمئة من مساحة المحافظة كمحميات طبيعية، حاولنا جاهدين تحويل الهور لمحمية طبيعية، ولكن تأثير عقد وزارة الزراعة حال دون إدراجه ضمن قائمة التراث العالمي”.
في الأثناء، تسلط الأكاديمية في تخصص جغرافية البيئة، الدكتورة كفاء عبد الله الجياشي، الضوء على الآثار البيئية المترتبة على الهور. وتشير الباحثة إلى أن ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة التبخر، والرقعة الجغرافية للهور حيث تقع في منطقة جافة، إضافة إلى تراجع سقوط الأمطار في محافظة المثنى، وقلة المياه الجوفية بسبب حفر الآبار الإرتوازية، جميع هذه العوامل تساهم في تقليل الموارد المائية، أي أن حفر آبار إضافية في هذه المنطقة قد يمنع انحدار المياه جوفيا إلى الهور، كما حدث مع بحيرة ساوة”.
وتردف الأكاديمية، بأن “هور الصليبيات يتميز بنمو غطاء شجري من أغلب جهاته وبالنباتات الطبيعية مثل القصب والبردي، إضافة إلى نوعية الطحالب التي لا توجد في أي من الأهوار العراقية الأخرى والنباتات الصحراوية، لكن فقدان عوامل التغذية لهذه الكائنات تساهم في عملية فقدان الأنواع”.
وأشارت الجياشي، إلى أن انخفاض مستويات المياه يؤدي إلى ارتفاع مستويات الأملاح، مما يخلق بيئة غير صحية للكائنات التي لا تستطيع التكيف معها، كما يساهم ارتفاع نسبة الجسيمات العالقة والطمى في صعوبة الحياة، علاوة على ذلك فإن معامل الطابوق التي يتجاوز عددها العشرة في منطقة عين صيد، تركت أثرا سلبيا كبيرا حيث يؤدي حرق الوقود بكميات كبيرة إلى إنتاج دخان وغبار وغازات تنتقل بفعل الرياح وتسقط باتجاه الهور، وهذه التساقطات تؤدي إلى تغيير خواص الهور الفيزيائية والكيميائية، مما يؤثر سلباً على جميع النظم البيئية الحية في المنطقة.
يضاف إلى كل ذلك مساهمة النزهات الترفيهية وقلة الوعي البيئي. في تدهور الوضع البيئي، وفي بعض المواسم يأتي صيادون من جميع المحافظات العراقية ومن دول الخليج إلى هذه المنطقة للصيد، ما يؤدي إلى اختفاء العديد من الطيور، ناهيك بفقدان النباتات جراء الاحتطاب واستخدام نبات السدر وشجر الغضا في صناعة الفحم والأراجيل.
وتدعو الجياشي، وزارة الموارد المائية، إلى ضرورة وضع حلول عاجلة تتمثل بالسعي إلى إطلاق كميات جديدة من المياه لإنعاش الهور الذي يعتبر بحد ذاته منظومة بيئية متكاملة من الممكن تحويلها إلى محمية طبيعية وفقا لاتفاقيتي “رامسر والتنوع البايولوجي” اللتين تعنيان بالمسطحات المائية المماثلة كالبحيرات والأهوار”.
وفي هذا الصدد، يشير مدير دائرة البيئة إلى أدلة تثبت أن جميع الكائنات الحية في الهور تأثرت سلبا منذ تأجير الهور، مؤكدا على أن “المستأجر تجاهل بنود التعاقد وحوّل المنطقة إلى مجموعة من الأحواض التي استغلها لمصلحته الشخصية، وسمح لبعض الأشخاص باستخدام وسائل غير قانونية مثل الصعق الكهربائي والسموم وهذا التصرف يشكل انتهاكا صارخا للبيئة وتهديدا للتنوع الأحيائي في الهور، حيث أصبحت البيئة غير ملائمة للكائنات الحية”.
وقد حددت دائرة البيئة الأضرار الناتجة عن تقسيم المستأجر للهور إلى أحواض وتأجيرها لأشخاص آخرين مقابل مبالغ مالية، مما أدى إلى طرد الصيادين المحليين، وقد تسببت هذه الخطوة بخلق مشاكل اجتماعية وصراعات مع المستثمر، حيث لجأ بعض الصيادين إلى المحاكم لحل النزاعات بما أن الصيد هو مصدر رزقهم الرئيسي.
ويبين سوادي، بأن مراقبة مديرية البيئة للهور تكشفت بأن طرق الصيد التقليدية المسموح بها يعزز إمكانية تحويل الهور إلى وجهة بيئية وسياحية إذا تم توفير حصة مائية مستمرة من مصادر أخرى، مما يساهم في الحفاظ على الكائنات الحية وعودة الصيادين إلى عملهم.
صراعات اجتماعية
وقد أدى تأجير هور الصليبيات إلى خروج السكان بمظاهرات تطورت إلى نزاعات خطيرة، ووصلت إلى تبادل إطلاق النار بين الصيادين والمستأجرين، مما استدعى تدخل القوات الأمنية.
ويوضح قائممقام قضاء الخضر رزاق حمود، بأن “هناك أناسا يعيشون على الصيد وتربية الجاموس، وقد اضطر هؤلاء جميعا إلى الهجرة، مما أحدث تغييرا ديموغرافيا واضحا، حيث شهدت المنطقة هجرة كبيرة من الريف إلى المدينة وإلى المحافظات الأخرى. لقد تضررت مئات العوائل بسبب الجفاف، هناك مربي جاموس كان لديه 180 رأس جاموس، مات منها 100 بسبب الجفاف، فاضطر إلى الهجرة لمناطق خارج المحافظة حيث تتوفر المياه”.
لا توجد إحصائية دقيقة عن العوائل التي هاجرت من المنطقة، بحسب المسؤول المحلي، إنما يقدر عدد العوائل التي تركت المنطقة بسبب قلة الموارد بـ50 عائلة من قرية عين صيد. ويؤكد على أن أكثر من 10 بالمئة من سكان القضاء يعتمدون بشكل مباشر في معيشتهم على الهور، ما يجعل تأثير الجفاف على المنطقة كارثيا بكل المقاييس، وقد أشار في حديثه إلى أن “سكان القضاء كانوا رافضين لتأجير الهور بشكل قطعي، وقاموا بمظاهرات وقدموا اعتراضات كثيرة، وبدورنا خاطبنا وزارة الزراعة لكن دون جدوى”.
ووفقا لقائمقام قضاء الخضر، الوزارة لم تبرم عقدا يراعي مصلحة الصيادين، وقد حاول الصيادون تنظيم الأمر بشكل يساعدهم على ممارسة صيد وبيع الأسماك تحت إشراف المستثمر مقابل حصوله على نسبة من الأرباح، لكن لم يستمر هذا الأمر طويلا، حيث نشبت صراعات اجتماعية على موارد الهور وعداوات شخصية، واستغل السياسيون هذا الصراع بوعود كاذبة للسكان من أجل حصول على أصوات انتخابية كما يقول.
بخصوص تجفيف الهور من قبل المستثمر، لا يراه حمود صحيحا، لأن ذلك يعني خسارته بدلا من الحفاظ على هور مملوء بالماء يزيد من الثروة السمكية بالأطنان، وبهذه الطريقة يمكنه تشغيل الصيادين وأخذ رسوم منهم، مبينا بأن “الهدف من استغلال الهور هو تشغيل الأيدي العاملة وتحسين أوضاع السكان”.
حق الرد مكفول لوزارة الزراعة
رفضت دائرة زراعة محافظة المثنى منح الهور للاستثمار بسبب نقص المياه، ولم يكن لدى الدائرة قرار بتوقيع العقد، حيث تقول بديرية شيال مديرة قسم الثروة الحيوانية في الدائرة، بأنه “تم توقيع العقد أثناء تولي المدير السابق لدائرة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة الدكتور مصدق الدلفي، بتنظيم عقد إيجار وسلمته لمستثمر بمبلغ 130 مليون دينار سنويا، حيث تم توقيع عقد استئجار الهور في عام 2015، والذي يمتد حتى منتصف عام 2025، ولكن هناك إجراءات لفسخ العقد بسبب دعوى قضائية رفعت ضد المستأجر لعدم دفع الإيجار خلال السنوات التسعة الماضية، إذ أن المستثمر اكتفى بدفع إيجار السنة الأولى فقط”.
وتضيف شيال “تتابع دائرتنا وضع الهور وتقدم تقارير شهرية للوزارة، تتضمن قياس مناسيب المياه وحجمها بالمتر المكعب، وعدد الأسماك لكل متر، ومن ثم تحديد الإيجار حسب سعر معين في الأسواق ويجرى هذا التقييم في كل سنتين”.
وبحسب السرد الذي تقدمه شيال، فإن “الحصة المائية للهور كانت شحيحة جدا، والسبب يعود إلى أن دائرة الموارد المائية لم تكن طرفا في العقد الموقع، مشيرة إلى أن إدراج وزارة الموارد المائية كطرف في العقد كان من الممكن أن يتم تخصيص حصة مائية كافية للحفاظ على الهور وما يحتويه من حياة، وقد رفض المستثمر تجديد تراخيص الصيادين، وفي السنة الأخيرة من العقد، قام الوزير بتكليف محامي من الدائرة برفع دعوى قضائية في محكمة أبو غريب، وتشير إحدى بنود العقد إلى ضرورة أخذ مصالح السكان من مربي الجاموس والصيادين في الحسبان”.
وتضيف “في السنوات الأولى من تأجير الهور كانت مناسيب المياه عالية، وكانت هناك حركة القوارب والمشاحيف، أما في الوقت الراهن فقد أصبح الهور عبارة عن مساحات يابسة ومجرى مائي ضحل مما أدى إلى هجرة جماعية لمربي الجاموس إلى مناطق تتوافر فيها مناسيب عالية للمياه”.
وتقول شيال “كان هناك في قضاء الخضر حوالي 2000 رأس جاموس، ولكن تقلص العدد بشكل كبير جراء الهجرة، وبيع الماشية خوفا من موتها بسبب قلة المياه والغذاء”.
من جهته، يوضح معاون مدير دائرة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة الدكتور حاتم الجبوري، بأن جميع المسطحات المائية تم تحويلها للاستثمار بهدف ضمان رقابتها ومنع الصيد الجائر، وبناءً على الشروط المفروضة يتم إلزام مستأجر الهور بإنشاء مفقس لإنتاج الإصبعيات للحفاظ على المخزون السمكي، كما يُمنع بموجب العقد، صيد الطيور المهاجرة، ولأن المستأجر يدفع مبالغ مالية لوزارة الزراعة، فلا يُسمح للصيادين بالصيد دون دفع مقابل.
وبحسب الجبوري، فإن “الاستثمار يعد وسيلة لحماية المسطحات من الصيد الجائر، نظرا لغياب سلطة الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الزراعة”، مشيرا إلى أن “المستثمر يوفر الحماية بشكل أفضل من الإشراف المباشر للوزارة على الرغم من تواصل الوزارة مع الجهات الأمنية، إلا أن الصيد الجائر لا يزال يمثل تهديدا للأحياء المائية”.
ويشير إلى وجود دعاوى قضائية بين وزارة الزراعة والمستأجر، قائلا، إن “لجانا قد تم تشكيلها لحسم الموضوع، لكن القرار النهائي لم يُتخذ بعد، كما أوضح أنه لم تصل أي بلاغات عن مخالفات تتعلق باستخدام الصيد الجائر من قبل المستثمر”، مشيرا إلى أن “المشكلة الأساسية تكمن في عدم دفع المستحقات، وهو ما برره المستثمر بحجة الجفاف، وأن القانون سيُطبق على الجميع دون استثناء إذا ثبتت أي مخالفات”.
وينفي معاون مدير دائرة الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة، وجود أي محسوبيات في منح المستأجر العقد، حيث تم ذلك عبر مزايدة نظمتها مديرية الزراعة، وفيما يؤكد على “حق الجهات التي تدعي عدم قانونية العقد، الطعن فيه أمام القضاء”، يلفت إلى أن “تأجير الهور تم وفقا لقانون 48 لتأجير الأهوار والمسطحات المائية، وأنه يتم إعادة تقييم سعر الإيجار كل سنتين بواسطة لجان مختصة، ما يعني أن أي تغيير مخالف لبنود العقد سيحمل المستأجر المسؤولية القانونية كاملة”.
يذكر أن الوزارة تسعى في الوقت الحالي إلى تخصيص حصص مائية للأهوار لمنع جفافها، وذلك في إطار الجهود الرامية للحفاظ على البيئة المائية، وفي هذا السياق يقول المسؤول العراقي، تركز الوزارة على تربية الأسماك عبر نظم حديثة، مثل النظام المغلق لتعزيز استدامة المخزون السمكي، كما تعمل على تطوير البحيرات الطينية والأقفاص المائية، حيث تنتج ملايين الإصبعيات سنويا من أسماك الكارب والأنواع المحلية التي تُباع بعضها بسعر مدعوم، بينما يُطلق حوالي 90 بالمئة منها في المسطحات المائية لدعم الصيادين مستقبلا”.
الصيد الجائر يهدد بفقدان الطيور
يروي حسام العاقولي، وهو هاوٍ للصيد، إن “هور الصليبيات ملاذ طبيعي تزدهر فيه طيور من مختلف بقاع العالم يصله طائر الخضيري المشابه للبط من الصين، ويجد فيه بيئة غنية بالديدان والأسماك، كما يجذب الهور طائر الماء القادم من السويد، لكن الصيد الجائر يُمارس من قبل ما يسمون محليا بـ”الدواشة”، وهم صيادون يأتون من مناطق مختلفة وينصبون كمائن مخبأة، مستخدمين طيورا مشابهة، كما يعتمدون مزامير لصيد طيور بالإضافة إلى وسائل كهربائية مثل الصعق أو أشباك تصيد أعداد هائلة تصل إلى 300 أو 400 طائر، فضلا عن نثر قمح مسموم لصيد طيور مثل الخضيري، دجاج الماء، البيوض، الدراجي، وأنواع أخرى، تُباع هذه الطيور دون الكشف عن طرق الصيد للزبائن، فعلى سبيل المثال يباع زوج طائر الخضيري بمبلغ 25 ألف دينار عراقي، ويمكن للصياد أن يصيد في اليوم الواحد ما بين 50 إلى 60 طائر خضيري أو دجاج ماء، وهناك من يمارسها كهواية”.
ويكمل العاقولي، “تفتقر دائرة البيئة إلى متابعة فعالة للطيور المهددة بالفقدان مثل طائر النحام وطائر الكركي، حيث يفترض أن يكون صيدها محظورا، ومع ذلك يتعرض للإبادة بسبب الصيد الجائر. يتفاقم الوضع ليشمل طيور الخضيري والوز (الشبيه بالبجع) والوز الكندي، التي تُصاد حال نزولها في أسراب وتُباع في الأسواق المحلية، بالإضافة إلى ذلك اختفت طيور غريبة كانت تأتي من الصين وروسيا، حيث يتم صيد ما يصل إلى 500 طير باستخدام شبكة واحدة، ما يؤدي إلى القضاء عليها بشكل سريع، في المقابل يعتبر صيد الرماية أقل تأثيرا على النظام البيئي، يقتضي الحاجة الملحة لتشديد الرقابة والحماية للطيور المهددة”.
التهديد المتزايد للسمكة العراقية
فيما يرى أبو أحمد، وهو صياد سمك، الاستثمار في الأهوار، بأنه الخيار الأفضل لتجنب الصيد العشوائي، كما يتضح من تجربة هور الدملج، حيث لا يتم استخدام السموم أو الكهرباء التي تضر بالبيئة المائية، خاصة في فترة تكاثر الأسماك، أن الصيد المفرط يؤدي إلى تدمير البيوض وإبادة الأسماك، وهو ما يحاول المستثمرون تجنبه بهدف الحفاظ على الثروة السمكية وضمان استدامتها لتحقيق الأرباح، على الجانب الآخر، تجربة مستثمر هور الصليبيات لم تكن ناجحة بسبب إهماله في توفير سوق مناسب للصيادين بعد إحالة المشروع، ظهر قصور في متابعة أداء المستثمر وطريقة الصيد، ما أدى إلى استيراد أسماك هجينة بدلا من إنتاج الأسماك العراقية الأصلية”.
ويصف أبو أحمد، وضع الثروة السمكية في العراق بالإبادة المفتعلة، “بهدف تحويله إلى مستورد من دول الجوار، وقد تم تنفيذ ذلك من خلال استخدام طرق صيد حديثة مثل السموم والكهرباء، ما أدى إلى انتعاش ثروات تلك الدول في حين تدهورت ثرواتنا”.
ويتابع أن “هذه الدول تسعى لتحقيق أرباح تجارية تقدر بملايين الدولارات، نتيجة لانخفاض أعداد الأسماك المحلية في المسطحات المائية، فهناك سوق قضاء الخضر الذي يقع على مقربة من الهور، حيث كانت تباع فيه يوميا عشرات الأطنان وتُصدّر للمدن والمحافظات المجاورة، ولكن بعد الجفاف، انخفض الإنتاج المحلي بشكل كبير، ما دفع الكثيرين إلى الاعتماد على السمك المستورد، لأن سعره أرخص بسبب فرق العمل”.
مستقبل هور الصليبيات
وحول مستقبل هور الصليبيات، يشير مدير دائرة البيئة في محافظة المثنى يوسف سوادي، إلى عقد اجتماع مع محافظ المثنى، بناءً على شكوى من أبناء قضاء الخضر، حضره 60 صيادا ومربيا للجاموس، وتناول النقاش تحويل المنطقة إلى محمية طبيعية وإزالة التجاوزات وتطهير النهر المغذي ورفع السدود لإعادة الهور الذي تحيط به الصحراء والجبال إلى وضعه الطبيعي”.
ويردف أن “الهور يُعتبر من أجمل الأهوار في العراق، مقارنةً بهور الجبايش، وتم تشكيل لجنة برئاسة نائب المحافظ الأول لمتابعة الحلول الفورية لإعادة الهور إلى وضعه الطبيعي كما سيصدر قريبا قرار يتم تحويل الهور بموجبه إلى محمية طبيعية، وسيتم تنسيق خطة إدارة متكاملة مع الوزارة وشبكة المحميات الطبيعية أو انضمامه إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية التنوع الأحيائي، نظرا لأهميته الكبيرة كجزء من منظومة الأهوار في العراق”.
من جانبه، يعلق قائمقام قضاء الخضر رزاق حمود، قائلا إن “نية دائرة البيئة في تحويل هور الصليبيات إلى محمية طبيعية هي نية حسنة، ولكن مصيرها سيكون الفشل، وخير دليل على ذلك هو فشل محمية الغزلان التي تبنتها دائرة البيئة، حيث مات فيها 135 غزالا بسبب العطش والجوع نتيجة عدم الالتزام والشعور بالمسؤولية من قبل موظفي الدائرة، كما أن وزارة البيئة لا تملك الإمكانيات الكافية لحماية الأهوار، حتى وإن تحولت إلى محميات طبيعية، كما حدث مع الأهوار التي دخلت ضمن لائحة التراث العالمي”.
وحث حمود، على أن تحويل الهور إلى مشروع استثماري بناءً على دراسة جدوى حقيقية، مع تعزيز الرقابة على الصيد وتطبيق العقوبات القانونية، وأشار إلى أن المحسوبية والفساد في السياسات الوزارية تعطل هذه الجهود، كما شدد على أهمية تكثيف حملات التوعية البيئية.
أوصى القائمقام بمنح عقود التأجير مع مراعاة مصالح السكان والمستأجرين، وتوفير البنية التحتية اللازمة، وأوضح أن إغلاق الهور لمدة سنة سيسهم في تحسين البيئة، مع تخصيص حصة مائية والاستفادة من السيول لدعم الطيور والتنوع البيئي”.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- آلاف الشركات الوهمية بالعراق مسجلة بأسماء "مغفلين" تهرباً من الضريبة
- رغم المرض والشيخوخة "حبوبات" ثمانينيات يطعمن المشاية خبز "السياح" الجنوبي
- في مناطق زراعية ونائية اقصى جنوب العراق: موكب حسيني يؤوي ويطعم "مشاية" عراقيين وعرب واجانب(مصور)