- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراق والتغير المناخي.. احتكار المعلومات وحجبها عن المجتمع - الجزء الثالث
بقلم: د. حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الاسبق
في ظل وضع سياسي متأزم وطبيعة حكم توافقية غير صالحة لحكم العراق، ويصعب معها تنفيذ برامج وطنية رصينة تناسب الأوضاع القائمة بما فيها التغيرات المناخية من جهة، وتسهر على احترام الالتزامات الخارجية للعراق، وتستجيب لشروط عضوية الأتفاقيات الدولية المتعلقة بالمناخ والبيئة من جهة أخرى، يترك المجال الى «مبادرات» ذات طابع اعلامي مثل «مبادرة انعاش بلاد الرافدين» وغيرها للتغطية على العجز القائم في مواجهة الأوضاع المتغيرة.
فما سُمّي بـ "مبادرة إنعاش بلاد الرافدين" التي سوّقها الرئيس برهم صالح، باعتبارها أولوية وطنية استجابةً للتغير المناخي، وقد أطلقها من مكتبه في القصر الرئاسي، بعد استقبال عدد من المعنيين، لم تكن سوى إعلان صحفي غير قابل للتنفيذ وليس فيه التزام حكومي، ولا برنامج زمني أو تمويل مشاريع، أو أي شيء أخر سوى العنوان الكبير الذي يوحي بإنعاش بلاد الرافدين. الرئيس برهم صالح نفسه بعد عام تقريباً غرّد داعياً الى تفعليها وكتب: "ان مبادرة مبادرة انعاش بلاد الرافدين التي طرحناها العام الماضي وتمت الموافقة عليها من قبل مجلس الوزراء، يجب تفعيلها وتطويرها كأطار استراتيجي لبناء اقتصاد اخضر داعم للموارد النفطية وتفادي الافلاس في الموارد المائية والجفاف وتداعياته في هجرة القرى والارياف والاراضي الزراعية».
يهدف هذا النوع من "المبادرات" للتسويق الإعلامي فقط، ومن خلال استخدام مصطلحات براقة توحي للجمهور بأن قيادة البلاد مهتمة بالمواضيع الكبرى وستقوم بما ينبغي القيام به. ولكن التأثير الحقيقي لها يكون مضرّاً بالوعي الشعبي العام، لأن الإعلان يكون غالباً ذا منحىً تخديري يدفع بالجمهور الى مساحة التوقعات والأماني المؤجلة، وليس الأفعال الحقيقية ذات المنحى التنفيذي المحددة ببرامج ومشاريع وأطر زمنية وتمويل ومسؤوليات.
من علائم المنحى الدعائي للمبادرة الرئاسية الطامحة الى "إنعاش بلاد الرافدين" مائياً وبيئياً، هو عدم إكتراث بل صمت الرئيس برهم صالح، والحكومة أيضاً، عن تجفيف ما تم إنعاشه سابقاً من أهوار الرافدين، في حملة تجفيف "ناعمة" تضمنت قطع المغذيات المائية دون ضجيج. والتجفيف هذه المرة هو سابقة لم تحصل بهذه الشمولية والقسوة حتى على أيدي حكومة الطاغية صدام حسين. بل ان الرئيس برهم صالح وقبل أسابيع من هزيمته الإنتخابية قام بتوجيه كتاب شكر الى بعض قيادات وزارة الموارد المائية المسؤولة بحكم وظيفتها عن استدامة الأهوار، على جهود إستثنائية وملموسة، وهي لم تكن كذلك أبداً. لست من خيث المبدأ ضد تكريم الأشخاص في حالات النجاح، لكن سكان الأهوار يحمّلون قيادة تلك الوزارة مسؤولية تجفيفها خلال السنتين الماضيتين. وتنتشر في الجنوب لافتات وشعارات وحملات تضامنية واحتجاجات ضد تجفيف الأهوار، غطّتها وسائل التواصل الإجتماعي والأعلام بكثافة، وكلها تشير بالمسؤولية المباشرة لوزارة الموارد المائية التي قلّصتْ ثم حجبتْ حصة الأهوار المائية.
لقد غادر الرئيس برهم صالح كرسيه، والأهوار العراقية والبيئة في أسوء حال عبر تأريخها الطويل، وسيتبعه من كان مؤتمَناً بحكم وظيفته على الحفاظ على الأهوار لكنه أفسد الأمانة، وقضى على ما تبقى من أهوار العراق. والأهم هو أن تغادر كذلك عقلية تسويق المبادرات الوهمية في ما يتعلق بالمناخ والمياه والبيئة والأهوار، وكذلك ثقافة التجفيف المتأصلة لدى بعض الأشخاص.
قد يفسر غير المختصين او غير المطّلعين جفاف الأهوار بوجود شحة مائية. وهذه الشحة لم ينكرْها أحد سوى وزير الموارد المائية الحالي شخصياً، إذ صرح في مناسبات عديدة خلال هذا العام والعام الذي سبقه بأن هبوط المناسيب في الأنهار ليس شحة في المياه بل نتيجة إجراءات تشغيلية تقوم بها الوزارة بين المواسم الزراعية، وكان يطمئن المجتمع بأن الأوضاع تحت السيطرة. وحقيقةً فالوزير الحالي هو الشخص الوحيد المؤهل بالتصريح نظراً لحجبه المعلومات المتعلقة بالموارد المائية عن المجتمع ليبقى هو المطّلع والمرجع الوحيد. فقد منع تداول المعلومات واعتبرها من أسرار الدولة، على الطريقة البعثية السابقة القائمة على احتكار المعلومات وتجهيل المجتمع.
ولكن برغم احتكار المعلومات ومنع المراقبين والباحثين ووسائل الأعلام من الوصول اليها، فقد كان أمر الموارد المائية واضحاً بأن الوضع المائي سائر نحو الكارثة، وأن الأهوار قد تقَرَرَ مصيرها وهو الجفاف التام.
كقاعدة عامة يجري تقدير الوضع الى درجة معقولة بأنه غالباً على العكس مما يقوله المسؤول الخائف والمتستر على المعلومات. ثم على المتابع إضفاء درجة المصداقية على ما سبق أن قاله المسؤول مما لا يحتاج الى إثبات ولا يمكن إخفاؤه من قبيل: "سأقوم بالتفاوض مع الرئيس التركي أردوغان"، و"الرئيس الإيراني حسن روحاني"، و"سنقوم بتدويل موضوع المياه"، و"سنشتكي في مجلس الأمن" و"في محكمة العدل الدولية وقد أعددنا المف الخاص بذلك"، و"سنبني سد مكحول لأنه من أولويات الوزارة،" و"سنقضي على أزمة مياه الشرب في البصرة عن طريق تحويل قناة البدعة الى انابيب"، و"سنبني سداً على شط العرب للتخلص من اللسان الملحي" وما شابه ذلك من تصريحات لم يتحقق منها أكثر من نسبة صفر بالمائة.
لذلك في ظل إخفاء الحقائق وحجب المعلومات الهيدرولوجية المتعلقة بالوضع المائي، كالإيرادات والخزين والتوزيعات وغيرها عن المجتمع، مضاف لها عدم تحقق كل ما قيل علناً في الفضائيات، ما الذي يتبقى من مصداقية لهذه المؤسسة الحكومية العريقة وريثة آلاف السنين من الخبرة مع مياه الرافدين منذ السومريين حتى يومنا هذا؟
كيف يمكن تصديق ان تدهور الوضع المائي والزراعي المقلق هو نتيجة للتغيرات المناخية وليس نتيجة للإجراءات التشغيلية (التي صرح بها الوزير الحالي مرات عديدة)، فضلاً عن الثقافة المتعالية والعدائية ضد الأراضي الرطبة والمسطحات المائية النابضة بالحياة، والمكتنزة بتنوع أحيائي نادر، والمدرجة باعتبارها إرثاً إنسانياً مؤمناً لدى حكومة وشعب العراق.
جدير بالذكر أن الشحة المائية السائدة حالياً هي ليست اول حالة شحة واجهها العراق، فقد مرت سنوات عجاف في السابق كما حصل في أعوام 2001 و2008 و2009 و2018 وقبلها في حوض الفرات في عامي 1974 و1975 مع ذلك لم يتسبب ذلك في تجفيف الأهوار برغم إرادة الدكتاتور في التسعينات وما تلاها حتى سقوطه.
ولكي نعطي مثالاً دامغاً لا يقبل الشك فإن مجموع إيرادات العراق المائية بين عام 2019 وعام 2022 قد بلغت أكثر من (212) مليار متر مكعب، أي بمعدل (53) مليار سنوياً وهذا رقم هائل في كل المقاييس ولا يمكن معه حصول جفاف طبيعي في منطقة الأهوار، خاصة بعد إضافة الخزين المتحقق للسنة التي سبقت ذلك التاريخ.
ان نشر المعلومات الحقيقية واجب وليس منّة من أي مسؤول حكومي، وعلى المتسترين والخائفين من المجتمع تغيير مواقفهم المضرّة وتبرئة ساحتهم من مسؤولية ما جرى ويجري من آلام ومصائب في مناطق الأهوار وغيرها، فلم يعد كافياً القاء المسؤولية على شماعة المناخ. فالتكيف مع تغيرات المناخ يتطلب مقاربة معاكسة تماماً للمقاربات النافذة في الوزارات العراقية ذات العلاقة.
-يتبع-
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة