- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
في سيكولوجيا الفساد التريليوني في العراق.. مسؤوليةُ السارق فقط أم تواطؤ المسروق أيضاً ؟!
بقلم: فارس كمال نظمي
هل الفساد جزء متأصل في الطبيعة النفسية للبشر، يشتد أو ينخفض بحسب المحددات القوانينية الضابطة له؟ أم الفساد تطبّع أملته الأنظمة السياسية والاجتماعية التي حكمت البشرية عبر التاريخ؟ ومن هم المسؤولون حقاً عن انتشار الفساد وتحصينه في الدول الفاشلة؟ الفاسدون أنفسهم ومنظوماتهم فقط أم ضحاياه المستسلمون أيضاً؟
وإذا كان الفساد – بمعناه المؤسساتي الشامل- هو سوء استخدام السلطة العامة لتحقيق منافع شخصية شرطها الأساسي إزالة أو سلب حقوق الآخرين، فمتى وكيف يتحول من كونه سلوكاً شاذاً إلى أعراف وتقاليد «مقبولة» أقرب ما تكون إلى القانون الاجتماعي، لتتغلغل في كل مجالات الحياة العامة: السياسية والإدارية والاقتصادية والقضائية والدينية والإعلامية والتعليمية والرياضية والطبية، وغيرها؟
إن أسئلة الفساد هذه تحيلنا مباشرة إلى جملة قضايا غير محسومة لا في علم النفس ولا في عموم العلوم الاجتماعية، حول مسألة الخير والشر عند الإنسان، الفضيلة والرذيلة، والأنانية والإيثار، وما إذا كانت دوافع التملك والاقتناء والحيازة والإثراء والسلطة هي دوافع أولية لا فكاك منها أم هي مكتسبة قابلة للمعالجة دوماً ضمن السياقات البنيوية للمجتمع والحضارة. وكل ذلك يرتبط بالجدال غير المحدود عن مدى عقلانية الإنسان أو لا عقلانيته.
وبإيجاز شديد، يوجد توجهان بحثيان رئيسان بهذا الشأن. يعزو أولهما الفساد إلى أسباب أخلاقية تتعلق بسلوك الأشخاص ونزعاتهم النفسية (أشخاص سيئون مقابل أشخاص جيدين). ويعزو ثانيهما الفساد إلى بنى سياسية واقتصادية وثقافية تزج الناس في مواقف فاسدة لينتجوا سلوكاً فاسداً بصرف النظر عن وعيهم وإرادتهم، بما يجعل من غير الفاسد فاسداً في نهاية الأمر (الفسادُ يُفسدُ)، حتى أصبح لدينا اليوم ما يمكن تسميته بـ”الموظف أو المواطن الفاسد رغم نزاهته”. وهكذا نرى باحثين يتحدثون عن مؤسسات/ سياقات/ بنى فاسدة، فيما آخرون يتحدثون عن مؤسسات لأشخاص فاسدين.
ويُلاحظ أن مجمل التنظيرات والدراسات النفسية الباحثة في أسباب الفساد تتجه إلى الفاسدين أنفسهم (المؤسسات والأشخاص)، فيما تمنح اهتماماً بحثياً قليلاً جداً لدور الجمهور المتضرر من الفساد (أي الجمهور المسروق)، في الحد منه بل دوره في تثبيته وتجذيره أحياناً.
فنجد أن جزءاً أساسياً من تلك التنظيرات يتجه توجهاً نزوعياً للبحث في خصائص الشخصية التي تجعل بعض الناس أكثر انزلاقاً نحو ممارسة الفساد (تأثير التنشئة الأسرية والاجتماعية والسياسية)، بفعل عوامل متعددة، كـ"انفصالهم الأخلاقي" Moral Disengagement عن المعايير القيمية التقليدية، ونزعتهم الأنانية للانحياز إلى ذواتهم، وولائهم النفسي لمدرائهم الفاسدين، وقدرتهم على الخداع والتلاعب، والجشع، واعتقادهم بأن ما يحصلون عليه هو استحقاقهم، وثقتهم الوهمية المفرطة بأحكامهم الشخصية.
ونجد جزءاً أساسياً آخر يتجه توجهاً سياقياً للبحث في الفساد بوصفه نتاجاً مؤسساتياً. فسياسات الهوية Politics of Identity أي تشكيل سياسات الدول بواسطة إطلاق هوياتها الفرعية (العِرق أو الدين أو الطائفة أو العشيرة)، بدلاً من أنظمة المعتقدات والانتماءات الحزبية والبرامج السياسية، يسمح بارتفاع مستويات الفساد بسبب تراجع قيم المواطنة وطغيان التمثيل الهوياتي للجماعات الفرعية داخل الدولة ما يؤدي إلى إضعاف سلطة القانون والمساءلة بسبب التخادم الذي يحدث بين تلك الجماعات، وبالتالي انتفاء العقاب. كما تؤدي ظاهرة "الترخيص/ التفويض الأخلاقي" Moral Licensing دوراً بنيوياً أساسياً في تشجيع الفساد، إذ أن انتماء الفرد لجماعة متنفذة داخل منظومة الحكم، قد يجعله يمنح نفسه ترخيصاً بممارسة سلوكيات أقل أخلاقية، فيصبح أكثر تساهلاً وأقل تحملاً لمسؤولية سلوكه ما دام انتماءه لتلك الجماعة يعوضه عن ذلك، لأنها تجعله “نظيفاً” في كل الأحوال. هذه الظاهرة ترتبط بالعديد من الحركات السياسية التي تعمل بايديولوجيا معارضة، والدينية منها بشكل خاص، فما أن تصل إلى السلطة حتى يبدأ أتباعها بممارسة الفساد لكونهم “منزهين” أو “محصنين” بحكم انتمائهم الفكري.
وللاقتصاد الريعي مساهمته الأساسية في استفحال الفساد أيضاً. ففي كتابه “ النفط والاستبداد: الاقتصاد السياسي للدولة الريعية”، يذكر “مايكل روس” أن النظام السياسي في الدول الريعية يتجه لتشجيع التوزيع السياسي للريوع لشراء قواعد يضمن ولاءها بالمال، وهذا ما يسمى بتأثير الإنفاق على الأتباع والمحاسيب، الذين يتحولون بمرور الوقت إلى شبكات اقتصادية وسياسية ومليشياوية موازية للدولة ولا تخضع لقوانينها. وعندها تعجز الدولة عن إنفاذ القوانين وممارسة المساءلة حيال هذه الجماعات التي تمأسست بشكل شبكات فساد عميقة.
وبتطبيق المنظور السياقي نفسه على العراق، استنتجت منظمة الشفافية الدولية أن هذا البلد “يعاني من فساد شامل وممتد في كل المؤسسات الحكومية”. وعزت عوامل الفساد هذه إلى تركة النظام السابق (غياب الشفافية والمؤسسات الديمقراطية وهدر الثروات)، وخصائص الدولة الهشة (بنية حكومية ضعيفة والافتقار للبنى التحتية وللقيادات الكفوءة)، والطائفية، والمحسوبية، والزبائنية، والإدارة الضعيفة للقطاع العام، وفوضى التشريعات، وغياب الرؤية الشاملة، وفقدان الإرادة السياسية، وضعف المجتمع المدني.
* * *
هذه المقدمة كانت ضرورية لتسليط الضوء على سيكولوجيا الفساد نزوعياً لدى الأشخاص السارقين وبنيوياً لدى المؤسسات السارقة. إلا أن ما يحدث اليوم في العراق من فساد تريليوني (أي اختلاس تريليونات الدنانير أو مليارات الدولارات علنياً وبالوثائق والأدلة المتضامنة) دون رد فعل مجتمعي مضاد، بل خدر وفتور واكتئاب جماعي، إنما يستدعي البحث في سيكولوجيا المسروقين أيضأً.
فلا جديد عندما أقول أن المنظومة الحاكمة في العراق تم تشييدها وفق مبدأ أساسي هو الافلات من العقاب، إذ يتواطأ الجميع فيها مع الجميع لحماية القتلة وسراق المال العام وأمراء الدولة الرثة. فالعدالة ليست أكثر من اجراءات ورقية شكلية لا قيمة موضوعية لها، تنتهي بعد كل تحقيق الى نهايات سائبة ومنسية. لكن ما أود اضافته هو: الى أي حد يمكن القول أن فئات واسعة من المجتمع المسروق باتت متهمة أيضاً بالتواطؤ “ضمنياً” أو التخاذل بما يسهم في إفلات المنظومة من العقاب، بل حتى إفلاتها من بديهيات المساءلة؟ وبعبارة، هل الفساد يصنعه الأشرار المنتفعون حصراً ليقع فيه الأخيار المتضررون؟ أم إنه نتاج سلوكي جدلي متعدد المستويات تتسع مسؤوليته لتصل إلى ضحاياه الذين لا يفعلون شيئاً لمقاومته سوى ممارسة دفاعات نفسية إيهامية ذات طابع تخديري للذات المستلبة؟ وكما يقول “البرت اينشتاين”: “العالم مكان خطير للعيش، ليس بسبب أن الناس طبيعتهم هي الشر، ولكن بسبب أن الناس لا يفعلون أي شيء لردعه».
ففي الوقت الذي تقوم فيه فئات مجتمعية بممارسة الاحتجاج بكل أنواعه منذ سنوات في العراق ضد الفساد وسياسات الهوية (المحاصصة)، ومنها الاحتجاج الثوري المستميت، فإن هناك فئات أساسية أخرى تمارس الإنكار والتجاهل والعدمية والاختباء النفسي والاستهزاء السياسي العاجز، وتنتظر حلولاً “قدرية” تصنعها قوى أخرى بديلة عنها. وقد وصل الأمر اليوم أن يطل فاسدون برؤوسهم وأسماءهم علناً بلا أي مواربة، من على شاشات التلفاز بأريحية عالية لإنكار أو تبرير اختفاء مئات تريليونات الدنانير على أيديهم، فيما ملايين المواطنين يشاهدونهم بصمت وقنوط ولا مبالاة أو بسخرية مازوخية سوداء.
هذا التواطؤ الضمني بين السارق والمسروق ليس خطيئة أخلاقية قصدية، بل هو نسق نفسي سياسي جرى تشييده تباعاً على مدى عقود تراكمية من الاستبداد والإذلال، له محركاته المستقاة من الوعي الزائف والإحباط العميق وفقدان الأمل ونزعة التسليم “المريحة” لدى الناس، ومن غياب البديل السياسي الكارزماتي في حياتهم، فضلاً عن قدرة الدولة/ الحكومة الريعية على تجديد شرائها لولاء الناس وطاعتهم وعزوفهم عن الاعتراض.
كما نجد في أدبيات علم النفس الاجتماعي والسياسي ظواهر أساسية أخرى موقفية تفسر عزوف المسروقين عن الاعتراض والاحتجاج، منها “الجهل الجمعي» Pluralistic Ignorance. ففي حالات محددة تتصل بالثقافة السياسية الخضوعية، يتوهم الفرد المتضرر من الفساد “جاهلاً” أن صمت الآخرين أو سلبيتهم سببه موافقتهم على الفساد أو إنهم غير مكترثين أو خائفين من الاعتراض، فيجهل الجميع دوافع الجميع الحقيقية ويحدث “تجنب جمعي للمسؤولية”. كما تؤدي ظاهرة “تأثير المتفرج» Bystander Effect دوراً مماثلاً، إذ يتوقف كل فرد هنا عن تقديم رد فعل مناسب تجاه الموقف الضاغط (الفساد)، أي يتخذ موقف المتفرج مفترضاً أنها مسؤولية الآخرين ولا بد أن أحداً غيره سيتحرك للاعتراض، ما يؤدي إلى “تشتت جمعي للمسؤولية».
وهكذا نرى أن الفساد التريليوني في العراق بات يعلن عن نفسه باسترخاء وصلافة دون وجل أو تخفٍ، وهذا يعني أن الأمر لم يعد يختص بعقاب السارق المحصّن سلفاً أو بإفلاته “المؤكد” من العقاب، بل صار يختص جوهرياً بمسؤولية المسروق بالكف عن موقف المتفرج، والتحرك اللفظي والفعلي لإنهاء التخاذل والمباشرة بالمساءلة.
ودون هذه اليقظة وهذا التحرك، فإن استعادة ميزان العدالة -ولو جزئياً- سيتخذ منحى عنفياً وقاسياً في نهاية المطاف. فعندما تعضّدُ الضحيةٌ -بعقليتها الخضوعية اللاواعية- جلادَها ليواصلَ جَلدَها، فإنها بذلك تغلق باب العدالة المؤسساتية اليوم، وتفتح باب الانتقام الدموي الفوضوي منه (أي من جلادها) غداً.
الفساد يصنعه القاهرون وقد يديمه المقهورون ضمنياً في دورة مفرغة، ما يقود الى تعاظم الفجوة المريرة بين القطبين، فتتبلور ضروراتُ التغيير دون ضمان أن لا يتحقق بصورة عنفية ثأرية، وما قد يرافقه من تفكيك هدمي للدولة والمجتمع.
أقرأ ايضاً
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- ما هو الأثر الوضعي في أكل لقمة الحرام؟!