حجم النص
بقلم: عباس البغدادي لم يعد ضرباً من المبالغة أو اللاموضوعية وصم السلفيين التكفيريين بحزمة أوصاف دفعة واحدة، كالتشدّد والتزمت والتطرّف والانغلاق والتعصب؛ بل هي فيهم مجتمعة، مع خلطة من الجنون والظلامية والبهيمية وتغييب العقل والمنطق، وكلها مجبولة بتأصيل إجرامي، وكأنها تراكيب جينية تزرق في أوردة أولئك. يعطي السلفيون الظلاميون الدليل بعد الآخر، وعبر إجرامهم الذي فاق حدود التصور؛ بأنهم يغرفون من إرث متخم بذات المشاهد والفصول التي تتجرعها البشرية من هؤلاء حتى ساعتنا هذه، تلذذاً في القتل، وعشقاً للدمار، وولعاً في التنكيل، وتفنناً في الذبح، وأكلاً للأكباد، حتى فاقوا أسلافهم بمراتب في الإجرام وسفك الدماء، فلم نسمع مثلاً ان أحد مشايخ بني أمية في عهد معاوية او ولده يزيد كان يتقرب الى الله في إلقاء درسه، وهو يوصف لمريديه كيفية التلذذ بحزّ الرؤوس، ويجسّد ذلك تمثيلاً والسيف بيده، وكأنه يعطي درساً عملياً في الطب أو الجراحة، كالذي نُشر مؤخراً لشيخ وهابي سعودي على اليوتيوب! كما لم يصلنا ان الحجاج الثقفي الذي قذفه رحم الطغيان الأموي؛ وهو أجرأ خلق الله في الخوض بدماء الناس، وخصوصاً الصالحين منهم، انه لعب كرة القدم مع جلاديه وزبانيته برؤوس ضحاياه! مع انه قيل في إجرام الحجاج الكثير، مثلما يُنقل عن عمر بن عبد العزيز قوله: "لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بالحجاج وحده، لرجحناهم جميعا"..!! لقد جُبل ظلاميو اليوم على كثير من هذا الإرث الأموي، ويتعصبون له أيّما تعصّب! وهم لا يخفون إعجابهم بما يمثله الحجاج وطغيان تلك الحقبة؛ فتجلى ذلك في أوضح صوره في المشاهد التي يتقنها الأمويون الجدد، مقروناً -الإرث- بالتلذذ الذي يوصي به الشيخ الوهابي الآنف ذكره، وأعني بها صور قطع الرؤوس، وصلب الأجساد أو أكل الأكباد، واذا كان بريد الحجاج لطاغيته عبد الملك بن مروان لا يخلو من أكياس فيها رؤوس المعارضين والمناوئين، تزلفاً دموياً من الأول، وإشباعاً لنهم الإجرام عند الثاني، فإن أبناء القوم الذين وصلونا يتزلفون الى مشايخهم وأمرائهم بذات (مناسك إقامة الشرع)، ولكنهم لا يبعثون الرؤوس هذه المرة بالأكياس، بل يرفعونها على النت، وتصل الرسالة الى من تصل! ولقد سبقهم حجّاجهم في تطبيق الفقه الأموي من قبل؛ حينما بعث عام 73 هـ برأس عبد الله ابن الزبير مع رأس عبد الله بن صفوان وعمارة بن حزم إلى عبد الملك بن مروان، وأمر جنده أن ينصبوا الرؤوس بالمدينة إذا مروا بها، ثم يسيروا بها إلى الشام، ولكنه وقبل أن يرسل الرؤوس كان قد أمر زبانيته بأن يصلبوا ابن الزبير على الثنية التي بالحجون (منكّساً) لثلاثة أيام، ثم "أنزله فرماه في مقابر اليهود" كما تذكر السيَر. هكذا إذن، قتلٌ ثم صلب ثم قطع للرؤوس، وهذا ما يقتفي أثره الدواعش والقاعديون ووحوش النصرة، كوقع الحافر على الحافر، وهو إعلان عملي صريح بأنهم شرّ خلف لأسوأ سلف، الحجاج ومروان ويزيد وهند آكلة الأكباد، ورثوا منهم مسلكهم بالفطرة، أو بالاكتساب من مشايخ الفتنة المنعمين بالبترودولار في جزيرة العرب، ممن يشربون من صديد التراث الأموي المتخم بالأحقاد وضغائن الجاهلية وانحرافات وعاظ السلاطين وشهية التسلط بأي ثمن. يمكن للمرء أن يشير بإصبعه على دوافع الظلاميين في قتل الأحياء، ولكن أنّى له ذلك اذا كان الهدف قتل الأموات، (هل تم استيعاب السؤال)؟ * * * انتج تناسل إرهاب القاعدة والفكر الوهابي لحصّة أفريقيا، بعد الشمال الأفريقي والمغرب العربي، وحشاً في الشمال النيجيري ليعيث في الأرض فساداً، وكانت نشأة جماعة "أهل السنة للدعوة والجهاد" عام 2002، كفرع محلي للقاعدة، وأمسى وحشاً بامتياز، اذ باشر أنشطته الارهابية وهو في طور الحضانة، ثم أصيب بانشطارات عدة، ووصلت به الى القيادة الحالية التي تتزعم ما يُعرف بـ"بوكو حرام"، وهي التسمية التي اشتهر بها التنظيم، وتعني بلغة (الهوسَا) النيجيرية "التعليم الغربي ممنوع"! لرفضه التعليم الغربي، وإيمانه بتعليم المشيخات والكتاتيب فقط، وتسللت هذه العقدة من زعيم التنظيم "أبو بكر شيكاوَ" الذي لم يكمل التعليم الابتدائي، واكتفى بتعليم الكتاتيب، وكان يعمل في الرعي. أما آخر جريمة جعلت اسم "بوكو حرام" يتردد على الألسن كثيرا؛ هي اختطاف (276) فتاة مسلمة من مدرسة ثانوية في قرية تشيبوك في الشمال الشرقي النيجيري في أبريل 2014، وقال "شيكاوَ" زعيم التنظيم: "سأقوم ببيعهِنَّ في السوق وفقاً لشرع الله"، وتم نقلُهن إثرها إلى تشاد، وبِيع الكثير منهن مقابل (12) دولارًا فقط للفتاة (ذات السلوك اقترفته داعش لبيع النساء في الموصل والرقة على انهن سبايا)! وتصرفوا في الباقي على انهن إماء وزوجات (للمجاهدين)! وأشتهر عن "بوكو حرام" بدَعها التي لا تنتهي، ودمويتها التي فاقت حدود التصور، وتمثيلها بجثث ضحاياها، وغالباً ما يكونوا مسلمين (ليسوا شيعة فقط للتأكيد)، فالتنظيم يجاهر بمتبنياته، وأشهرها؛ "ان المدارس والمساجد كلها حرام، ولا تجوز الصلاة في أي مسجد، بل فقط في مساجد منفصلة ومخصصة لأعضاء الجماعة، وبالتالي يجوز إحراق المساجد الأخرى، لأنها ليست مكانًا للمؤمنين"! وسقط آلاف الضحايا نتيجة العمليات التي يشنها التنظيم، كما تضرر نحو ثلاثة ملايين شخص من عملياتها، وفق آخر إحصائيات الأمم المتحدة. ولم توفّر الجماعة إجرامها على أية طائفة أو دين، فلقد اعتبرت بجرّة قلم "كل من ليسوا فى الجماعة، من المسلمين والمسيحيين هم أعداء الله، يجب قتالهم". ولا يفوتها استخدام مصطلحات من الفقه الاسلامي، كالغنائم والفيء والسبايا، في التعامل مع كل ما ينهبه إرهابيو الجماعة او يتسلطون عليه في (غزواتهم). ولقد بايع زعيم "بوكو حرام" مؤخراً الخليفة الداعشي أبو بكر البغدادي، وسارع التنظيم قبل عدة أيام الى إعلان "دولة الخلافة" في مناطق يسيطر عليها في شمال شرق نيجيريا. وأكثر ما يُلفت في التنظيم، رعونة وطيش والسلوك الاستعراضي لزعيمه "أبو بكر شيكاوَ"، حتى انه أصبح نجماً للكثير من البرامج الساخرة التي تنال منه، وعادةً ما يطفح كلامه بمفردات التهديد والوعيد والقتل والابادة (لغة داعشية)، حتى انه في حمأة إحدى (غزواته) الخطابية مؤخراً على الغرب، هدّد بـ(قتل) مارغريت تاتشر والبابا يوحنا بولس الثاني، ولم ينتبه ان الأولى توفيت قبل عام، والثاني قبل تسع سنوات فقط! * * * يمكن اعتبار تهديد "شيكاوَ" بقتل الأموات؛ مفتاحاً الى مغاليق فقه الصدمة، وصعقاً شديداً لأفكار "التكفير والهجرة" والمتبنيات السلفية في عمومها، وهي حالة تراكمية لم تُخلّق إكلينيكياً، إنما تنامت بفعل إرث عملي -الأموي كما سلف-، تبعه توقف الزمان في العقلية السلفية بما لم يمكّنها من مجارات التحولات الزمنية والعصرية، المنسجمة مع سنّة التدافع البشري، مما أفضى الى تضخم أفكار انعزالية، صعّدت بدورها من جرعات التكفير التي غرفت من ذلك الإرث المنتج لإلغاء الآخر وإقصائه؛ بل والتنكيل به، لا فرق ان كان هذا الآخر مسلماً أو من دين آخر، ثم أفرزت نهماً مرضياً الى القتل، يتعدى الأحياء الى الأموات، في الشعور أو اللاشعور. والطامة الكبرى أن "بوكو حرام" ومن ورائها القاعدة والتنظيمات المتناسلة منها، منفصلة عن الواقع، وتعيش انفصاماً ينزع الى السلوك الإجرامي (السيكوباثي)، وتتصرف كأنها تعيش واقعاً افتراضياً في (إطلاق) الأحكام، ولكنها تنتقل الى الواقع الحقيقي في (تطبيق) تلك الأحكام، ويؤشر هذا؛ وضمن دائرة الانفصام تلك، الى وجود ما يطلق عليه "الأسوار الزجاجية" غير المرئية، التي تفصل بين الواقعيْن الآنفين، أما الثغرة بينهما والتي تجعل الارهابيين التكفيريين يعيشون الواقعين معاً، فهي ثغرة الانفصام، والتي جلبت بدورها الويلات لشعوب المنطقة، وتهدد السلم العالمي، بفضل (استثمار) هذا الأمر من دوائر غربية مغرضة، كما تفصح الأحداث عنه. لقد تدحرجت أفكار التكفير والهجرة والتي تبلورت عقيدتها منذ عقود في مصر كامتداد لأفكار سيد قطب، ومن وراء حجاب فكر الإخوان المسلمين، مما مهّدت لنشأة تنظيمات الارهاب السلفي التكفيري، التي استباحت ذمم المسلمين-بعد تكفيرهم- بكل أشكالها، وتعدّت بالطبع الى غير المسلمين، حيث شهدت تلك الأفكار زواجاً كاثوليكياً مع الوهابية، فأفرزت النهج التكفيري المعنون سياسياً وفكرياً بـ"السلفية الجهادية"، فحصدت شعوبنا الويلات تلو الويلات كثمار شيطانية لتلك السلفية، وضاعت أوطان، ومرشحة أخرى لذات المآل، كل ذلك باسم الإسلام والشرع والرسالة! تكمن خطورة ظاهرة الإرهاب التكفيري، في أنها نزعة متأصلة وموروثة، تماهت قسرياً مع القداسة في جوانب عدة، وليست ايديولوجية يمكن الرهان على جفافها بفعل عوامل زمنية أو إفلاس في التطبيق، فنار تلك الظاهرة تبقى متوقدة دائما تحت الرماد، وهنا تكمن أيضا صعوبة اقتلاعها من جذورها، وجلّ ما يمكن فعله، عبر جهود عظيمة منها دحر الظاهرة مادياً على الأرض، ومعنوياً بتسيّد الإسلام المعتدل والوسطي في أوساط المسلمين، هو أن يتم (الحِجر) على الظاهرة وتكبيلها، لأنه بعد 14 قرناً، لا يمكن الادّعاء بأن مثل هذه الظاهرة يمكن أن تتلاشى بضغطة زر أو لمجرد توافر النوايا. لقد أفضى تمويه الارهاب التكفيري مع المقدس الى انحرافات جدّ خطيرة، الى حدّ التباهي بأن صفة (الإرهابي) التي تطلق على أفراد التنظيمات الظلامية، تُعتبر (منقبة) تستقي مشروعيتها من فكر الانحراف، الذي يتعسف في تفسير القرآن، ولقد اطّلعت مؤخراً على رأي ضمن مدونة يُعتقد انها لإحدى التنظيمات التكفيرية، نشرت آراءً تتبنى فيها هذا الفهم، وتؤسس الى اعتبار (الإرهابي) "صفة حميدة ومنقبَة يرددها الأعداء لوصف المجاهدين، فيمدحوهم حيث أرادوا ذمّهم، وهو ما بشرّت به الآية 60 من سورة الأنفال، اذ جاء فيها قوله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"! وهذا هو التعسف بعينه، اذ ينحت هذا التطرف الفكري من الفعل (تُرهبون) صفة الإرهابي، وتتحول الى منقبة بعيداً عن استخداماتها المتعارفة، ولا يتعارض هذا -طبعا- مع باقي سلوكيات الارهابيين (المجاهدين)، فهم يفجرون أنفسهم في المسلمين، من نساء وأطفال وشيوخ آمنين، ليلتحقوا بمائدة الغداء أو العشاء مع الرسول (ص) في جنان الخلد! وبين (منقبة) صفة الإرهابي، وشهية القتل التي تطارد الأحياء والأموات معاً بتصريح من "شيكاوَ"، تزداد محنتنا كمسلمين، ولن يكون خلاصنا سوى باستئصال الورم الخبيث، المتمثل بالفكر التكفيري السلفي. معادلة بسيطة، تجاهلناها فحصدنا الشر للأسف.