إن سنوات طويلة من حكم الانظمة الدكتاتورية والمستبدة سواء على دفة الحكم سياسيا او في مفاصل المجتمع داخل الاسرة والمدرسة والجامع والجامعة، افرزت انماطا من السلوكيات السياسية والاجتماعية السلبية جدا التي ابتليت بها مجتمعاتنا عبر عشرات السنين وما زالت تدفع فاتورة تلك الانظمة وما اورثته من سلوك واداء منحرف. فالمدرسة والمؤسسات الدينية تتحمل مسؤولية كبيرة في انتاج كثير من تلك السلوكيات وتحديدا دور بعض المعلمين ورجال الدين وبالذات في القرى والأرياف وفي موضوعة الترغيب والترهيب والتفسيرات والتأويلات البعيدة عن الجوهر والمبالغة فيها، إضافة الى مناهج التربية والتعليم التي حولت اجيالا بأكملها الى اوعية لملأها بالمعلومات دون نقاش او مسائلة او مبادرة باستخدام التلقين والتعبئة والتخويف والتهديد والضرب، مما ادى الى نمو اشكال وانماط من الشخصيات والسلوكيات والهواجس المترددة وانواع الاستكانة والاحباط والدونية على خلفية الارهاب والرعب الذي كان يمارسه المعلم او المربي او رجل الدين او ولي الامر، حيث الخوف والانكسار والاذعان والخضوع والطاعة العمياء لأولي الامر على خلفيات اجتماعية وقروية أو تفسيرات دينية خاطئة في التربية او التأديب والتعليم؟.
ومن جانب آخر فعلت وسائل الاعلام الموجهة فعلتها الكبيرة في اخضاع الاهالي الى تأثيرات سايكولوجية سلبية بالغة لعبادة الفرد وتقديس القائد وتأليهه مما أدى الى ظهور انماط من ثقافة الاستكانة والمديح والثناء والتزلف والتدليس لأي مسؤول يمتلك بعض مفاتيح المال أو السجن او مظاهر القوة والسلاح وخاصة من قبل اولئك المسؤولين المصابين بالنرجسية والتسلط، حيث نجحت تلك الوسائل الاعلامية لعقود كثيرة باشاعة الرعب والخوف وتحويل المجتمع بأكمله الى قطيع منقاد، من خلال تلك البرامج والصور التي كانت تظهر وتشيع مشاهد القتل والاهانة امام الناس، اضافة الى قطع الرؤوس والاعضاء كما كان يحصل في قطع الاذن واللسان والوشم على الجبين حتى اصبح مجرد التفكير سوءً بالرئيس او النظام وحزبه يثير الفزع والرعب، مما ادى الى تحويل المجتمع الى مجتمع القطيع المرعوب؟
وخلال عشرات السنين من غياب اي نهج لاعادة ترتيب البيت العراقي على اسس انسانية وديمقراطية واجراء تحديث شامل يمتد الى كل مناحي الحياة، بقي الفرد اسير تلك الهواجس تعمقها انظمة الحكم الدكتاتورية وشعاراتها الفارغة التي زرعت قيم اخرى من الكذب والادعاء والسطحية المقيتة، حتى اصبحت غالبية الاهالي تتصرف كقطيع تحت ضغط وارهاب السلطة السياسية وغيرها، مما خلق اجواء مناسبة لظهور طبقات من الذيليين والامعيين والانتهازيين والنفعيين الذين يمارسون التدليس والنفاق الاجتماعي والسياسي للوصول الى اهدافهم وتحقيق مآربهم، والذين تكاثروا مع استمرار نهج النظام واساليبه حتى سقوطه واحتلال البلاد، حيث بدأت تلك الطبقات او المجاميع من الذيليين والوصوليين نشاطها وفرصتها بالتقرب من مراكز القرار الجديد من الامريكيين او غيرهم ممن يمتلكون مفاتيح المال والنفوذ، وخلال سنوات نجحت تلك القوى في خلق حلقات مهمة حول المسؤولين الجدد على مختلف الصعد والمستويات الرسمية والحزبية، والانكى من ذلك انها بدأت تستحوذ على مقاعد قرب مراكز القرار وتخترق اسوار النظام الجديد لتكون جزءً منه، وليس ببعيد عن الذاكرة تلك الوثيقة التي نشرت في الاشهر الاولى لسقوط النظام والتي تضمنت اوامر وتعليمات رئيس النظام السابق لمسؤوليه في الحزب والاجهزة الخاصة بالانتماء لكافة الاحزاب والمنظمات والعمل من خلالها.
وقد بان للعيان ان اخطر ما يواجه عملية بناء العراق الجديد بعد سقوط نظامه السياسي السابق هو هذا الخليط من الانتهازيين والفاسدين والضعفاء الذين لا هم لهم الا الوصول الى مراكز القرار من خلال التدليس والنفاق والمديح الكاذب والثناء للمسؤولين واصحاب القرار على مختلف المستويات لتنفيذ مآربهم الشخصية ليس الا، حيث تمكنوا في كثير من المراكز من تأسيس حلقات حول اولئك المسؤولين ابتداءً من دوائر الاستعلامات والاستقبال وحتى السكرتارية وهيئات الاستشاريين وحتى رجال الحماية الذين اصبحوا في كثير من الحالات حلقة الوصل الاكثر اهمية وخطورة بين المسؤول والاهالي الى درجة ان البعض منهم منح نفسه صلاحيات المسؤول؟
إن استشراء انتشار هذا الكم الكبير من هؤلاء المجاميع في مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحافة والإعلام اضافة الى مفاصل وقيادات الاحزاب والفعاليات السياسية المؤثرة، سيعيق تقدم البلاد ونهوضها وسيبقيها في حالة ضعف وتردي من خلال ذلك الأداء الانتهازي والوصولي الضعيف الذي يقزم الدولة الى دكاكين ومزايدات للبيع والشراء والتكسب ويحيلها الى مؤسسة استهلاكية عاطلة، مما سيؤدي تدريجيا الى افراغ المشروع الوطني لإعادة بناء العراق الجديد من محتواه الحقيقي واهدافه المتحضرة، ويقينا ان الشخص المناسب اذا احتل مكانه المناسب لن تكون هناك نوافذ يندس منها اولئك الضعفاء!؟