ان لم تخنّي ذاكرتي، فقبل نصف قرن فقط، كان لنا نحن المسلمين في العراق، على سبيل المثال لا الحصر، عيدي الفطر والاضحى وبعض المناسبات الدينية المعروفة، وكانت للاخوة المسيحيين واتباع الديانات الاخرى، اعيادهم ومناسباتهم ايضاً، واذكر
ان مجموع ايام العطل الرسمية ( العامة )، لم يكن ليبلغ على مدار السنة، عدد اصابع اليد الواحدة، مع الاحتفاط بحق الآخرين في التعطل بمناسباتهم الخاصة، وهي الاخرى معروفة ومحدودة العدد. وشهدنا نحن العراقيين كغيرنا من شعوب الشرق، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، موجة عارمة من ( الاعياد )، اجتاحت بلدان ما كان يسمى بالعالم الثالث، وهي تدشن عصرها ( الثوري )، لتدخل حضائر انظمتها ( الراديكالية )، فتزداد فقراً وأمية وبؤساً، حتى ان تلك الاعياد قد اصبحت مقياساً، لتقدمية هذا النظام او ذاك، ومؤشراً وحيداً لرعاية، لهذا الجنس او لتلك الشريحة من رعاياه المسحوقين. ومع تناقص مساحات الفرح المفعمة، بمعايير المواطنة ومقومات الحياة الرخية والآمنة، وتآكل مساحات الحقوق لحساب الواجبات الثقيلة، التي فرضتها سلطات الاستبداد والعسكرة، ظلت الاعياد الوهمية مناسبات ( رسمية ) تعبوية، يستعرض بها ازلام السلطة وولاتها رعاياهم المقهورين. وكان تشريف ( الاستاذ ) المسؤول للاحتفالية، وهو مدجج بنرجسيته، ومحاط بلاقطات الصوت واجهزة التصوير، وبالمهرولين من امامه ومن خلفه وعلى جانبيه، يُعدُّ تكريماً لرعية منعها حكامها كل شيء، سوى عبوديتها وخنوعها، لعصا السلطة وحماقات السلطان. وقد ورثنا عن السلطة المبادة، فضلاً عن مواريثها الثقيلة، في مجالات الحياة كافةً، ( سلة ) من الاعياد ( الزائفة ) والمناسبات المفتعلة، وهي تحمل معها طقوسها الشكلية، التي ظلت على الدوام معيناً لا ينضب، يستوحي منه مثقفو السلطة ووعاظها، عناوين سمومهم التي استنزفوا بها عقل الامة ووعيها. وما يشعرني وكل المعنيين بشؤون الفكر والحياة، بالاسى المشوب بالاشفاق والقلق، ان هذه الموروثات التعبوية ( الثقيلة )، مازالت على فجاجتها، وبعد خمس سنوات من سقوط النظام المنحل، تتصدر طقوسنا الثقافية التقليدية. وليس هذا وحسب، بل انها قد صارت اليوم، واحدة من أسوأ واقبح مكونات ( عقلنا الجمعي )، ونحن نمارسها بنفس البلادة والغبطة الماكرة، التي كان يمارسها بالأمس القريب، نصابو السلطة الديكتاتورية ووكلاؤها. انا لست ضد الفرح، وان يكون للناس ألف عيد وعيد، او ان يوقدوا الف شمعة وشمعة، احتفاءً بميلاد طفلة او طفل، او غرس شجرة، او حفل عرس، وانا حتى تقطع النياط، مع ان تكون لنا ايام او اعياد، نحتفي او نحفل بها، بالشجرة وبالأم او المرأة او المعلم اوالطالب او العامل، ولكن بشرط ان تكون مثل هذه المناسبات الكبيرة، وقفات للمراجعة وتقويم الاداء، واعادة الحسابات من خلال استعراض ما تحقق، من المكاسب والمنجزات للمحتفى بهم، وليست عروضاً نفاقية يستأثر ( فحول ) السلطة بنجوميتها، او مناسبات لهدر المال العام، بحفلات مزوقة بالمعجنات وعلب المرطبات، وباعلانات ملونة للتهنئة، تحتل الصفحات الاولى، من كبريات الصحف الوطنية، ويستثمر بها مسؤولو الاعلام، في الوزارات والدوائرالتابعة لها، ملقهم ( الاداري )، ليسترضوا رؤساءهم بهوس اعلامي فج، اذ ليس لديهم من المنجزات والمكاسب، ما يستحق الحديث عنه في مناسبات كهذه. وما شهدناه في الاسبوع المنصرم، ونحن تستذكر اليوم العالمي للمرأة، او ( عيد المرأة ) كما هو الدارج عندنا، لم يخرج عن ذات الطقوس العقيمة، والاستعراضات المفعمة بنرجسية الفحول وسطوة الذكورة، فلم نسمع في كل ما صدحت به حناجر الخطباء، وضجت به مكبرات الصوت، ذكراً لإحصائية واحدة دقيقة وموثقة، عن اعداد الارامل والمطلقات من النساء، او اعداد من حرمن حنان الابوة من البنات، او اعداد المتسولات والعجائز المتضورات جوعاً ومهانةً. ولم يذكر المعنيون بشؤون الاعلام، في الوزارات او الدوائر التابعة لها، اي منجز ذي قيمة للمرأة العاملة او العاطلة، يعصمها من ضعف انوثتها وتعسف البعض. وعلى مستوى الحقوق العامة والأحوال المدنية والعنف، ومستحقات المرأة كنوع اجتماعي، كانت وزارة المرأة هي الغائب الأوحد، وظلت المرأة العراقية في خانتها التقليدية، كائناً خدمياً مهمشاً ومبعداً عن مراكز اتخاذ القرار، وفي الحالات النادرة التي وصلت بها هذه المراكز، ظلت متلفعةً بعباءة سيدها الرجل، فعذراً ايتها الحبيبة ...المرأة، ان ارجئ تهنئتي لك الى العام القادم، عسى ان القاك وقد حققت ما يستحق التهنئة.
أقرأ ايضاً
- غزّة تحترق... وقلوب الحكّام العرب لا تحترق!
- متى تحترق أذرع الفساد ؟
- قصص الصحة في العراق تحتاج زيارة كتّاب هوليوود!