علاقة الانسان بالمقدسات غاية بالسلبية، وان كانت هناك من علاقة بين الانسان والمقدسات فانها غالبا وابدا تميل لغير صالح المقدسات. والتاريخ يثبت هذه الحقيقة ابتداءا من الوثنية والشرك الى قتل الانبياء ومن سار على شاكلتهم، الى الاختلاف الذي يعم الحياة المعاصرة حول هذه القضية التي اخذت شكلا حادا من اشكال التقسيم في المواقف بين الداعية الى الابتعاد عن المقدس واللجوء الى روح المكتشفات المادية في تنظيم الوجود الانساني، وبين تلك التي تعلن الحرب على كل موجود ماعداها تحت ذريعة الابتعاد عن المقدس، قادت هذه الحالة الى نمط من التفكير اسس الى ان نهاية الكون سببها الصراع مع المقدس او الموقف منه.
مادعاني الى الكتابة حول هذا الموضوع هو مادار ويدور في كربلاء المقدسة قبل على فترات ، اذ كان الكثير منا يعتقد جازما ان كربلاء(المقدسة) في امان مما هو في غير مصلحة المقدس او على اقل تقدير ان اهلها وقد عاشوا معها قرون من المراسيم (المقدسة) سيحولون هذه المدينة الى نجمة لامعة وراية من رايات او علامة من علامات احترام الانسان للمقدس.
والغريب ان هذه المدينة وما يحل بها ومنذ ان امتدت لها يد القداسة لم يحظ بها نمط الحياة باي عناية ترقى الى مستوى قداستها مع كل المحاولات الجارية لفعل ذلك. فكانت تشهد موجات من التدمير والحرث والحرق لم تسلم منها الى اليوم.
فاين تاثير المقدس على سلوك الناس؟ ولماذا يغيب هذا التاثير الذي نزعم انه(ذاتي) للمقدس في حياة البشر، وعلى الاقل المؤمنون به؟
هل السبب في فهمنا لمعنى المقدس؟ ام بسبب تقاطع المصالح التي يلعب المقدس في بناءها دورا محوريا؟
ام بسبب اننا لانملك من الانتاج والمصالح ما يستحق ان يكون موضوعا للصراع مثل المقدس؟ فصرنا نتشاجر مع المقدس او عليه، او بسبببه الى حد تدمير هذا المقدس؟
ان المقدس هو (اضافة الى موجود) الهدف منها رسم علاقة وموقف بين ذلك الموجود والانسان باعتبار ان حالة القداسة لاينتفع منها او يشعر بها الا الانسان في الاطار العملي.
ولم يكن المقدس في كل تجلياته الا معنى يستفيد منه الانسان في الحفاظ على شيء او موضوع من الزوال او الانتهاك من طرف اخر.
والمقدسات تمنح الانسان احتراما لذاته لانها تدخل في بناء هذه الذات بل ان من المنطقي ان نقول ان الذات الانسانية لولا القوة التي تستمدها مما هو المقدس لما يبقي للذات او الموجود الانساني من القدرة على الحفاظ على وجوده او التمتع بالوجود العام بالشكل الاكثر قبولا.والافكار العليا او تلك التي تتعامل مع التفكير بالمقدس باعتباره يمتلك القداسة في ذاته من الافكار الاساسية للتعامل معه.
الا ان التعامل مع القداسة باعتبارها بعيدة عن التاثر بالسلوك تجاهها فهو من الاخطاء الاخلاقية التي يدفع الانسان ثمنا كبيرا لها، واول هذا الثمن هو عدم الانتفاع من القيم التي توفرها القداسة في المعاملات اليومية والتي قد تدر ربحا كبيرا سواء في العمل العيني او الروحي المعنوي، المنظور او غير المنظور .
واذا عدنا الى كربلاء ( المقدسة) فيمكن ان نلحظ مثالا قد لايتوفر في كل بقاع الدنيا، فهذه المدينة انشاتها الارادة الالهية وهذه الارادة خاصة في محتواها ومعناها فهي مفعمة بروح اللآخرة والغيب والشهادة وهلم جرا.
الا ان حال هذه المدينة لاينم عن تلك وجود فهم لهذه الارادة او استيعاب تام لمنهجها بل العكس، فانا اتوقع ان كل شبر من هذه المدينة مقدس وطاهر ينال من العناية الكبيرة من اهله اينما كانوا ، سواء اذا قصدنا بالعناية في النظافة مثل نظافة الطرقات والبيوت والقلوب والحارات والايدي والنيات والاعمال والحدائق والبيوع والبساتين والادارات العامة والخاصة والاجواء، او في عمرانها اي بناء هذه المدينة بشكل مستمر وتراكمي وتوسع في الخدمات والتقدم في العمران والهندسة والجغرافية وسياسة التشجير والسياحة والتربية والتعليم والترفيه والمعرفة وكل مصادر او صور الحياة الاخرى التي تدل على ان هنالك مقدس يؤثر في هذه البقعة من العالم في اناسها او ارضها او هواءها.
لقد وضع علماء الاجتماع عدة اسباب للظواهر الاجتماعية وساحاول هنا معرفة اي الاسباب اقرب الى ان يكون علة هذا الخراب الذي طال المدينة( المقدسة ) كل هذه القرون والتي ادعو القراء ايضا الى تالتفكير معي في اي الاسباب هو الاساس:
الجغرافيا: اذا اعتقد العلماء ان الجغرافية والتكوين البيئي للمكان عامل حاسم في تكوين الظواهر الاجتماعية وبناء السلوك الانساني، فكان الصحراء ومناخها الحار الجاف وفقر هذا المناخ والبيئة الجغرافية وعلاقات المكان بالمناطق المجاورة، ام ان السبب هو العامل الاقتصادي وماتعيشه هذه المنطقة من فقر موضوعي – رغم امتلاكها ثروة افتراضية- حدا بان يكون السلوك انتهازيا في اغلب مراحله وكذلك بسبب كون النشاط الاقتصادي اقرب الى الزراعي منه الى اي نشاط اخر ، ام ان السبب بيولوجي راجع الى التكوين الفسلجي والتشريحي للجسم الذي يعيش ابناؤه في هذه المدينة وتكوين العقل طبقا لخصائص وراثية محددة؟
ام ان السبب هو طبيعة الفرد والتكوين (النفسي الاجتماعي) او النفسي الخالص والذي اعتاد على ان يرث تاريخيا النظر الى المقدس نظرة لاتقود الى العمل بل الى الاستسلام مثل الانسان الاول الذي كان يركن الى الطبيعة والاجرام المسماوية والظواهر الطبيعية لكي تحميه من مشاكل وطوارق الايام. فكان يعبد الشمس او القمر ويطلب من الاله زحل اوا ورانوس ويتقرب باللات والعزى.
ومن المفيد الاشارة الى ان الايمان بالمقدس تكون في بعض الاحيان مرجوة لذاتها فيغتقد الناس ان هذا الايمان كاف بذاته دون العمل وهذا من الاشكاليات الكبيرة التي يثيرها هذا الموضوع انطلاقا من بعضة الاعتقادات على سبيل المثال التي تشير الى الثواب في العلاقة المجردة مع المقدس بعيدا عن مايترتب على هذه العلاقة من عمل .
ام ان الامر اجتماعي خالص، تطور بنفسة الصفات الذي ذكرها ابن خلدون في مقدمته عن المجتمع العربي ؟
ام ياترى ان الاسباب السابقة كانت كلها موضوع تاثير في هذا المشهد التاريخي الذي اسهم في تطور وبناء هذا المجتمع وعلاقاته الداخلية والخارجية وبتفاعل كل الاسباب المذكورة انفا.
ليس لاحد سوى الدارسين يعرف الحقيقة لكننا نرجح التوجه الاخير وهو القائم على ان الذي يريد ان يستمر المقدس في بناء مدينة( مقدسة) عليه ان يضع بعين الاعتبار كل الحقائق السابقة وهي يمكن تسميتها بالمنطق العلمي بتعدد المناهج في تحليل الظواهر. والنظرة الى هذه الحقائق من المسلمات الكبرى في التحليل الاجتماعي للظواهر في العلم الحديث وعلى اساس ان العلم لايستطيع تحليل الظواهر استنادا الى نهج او رؤية واحدة انما الافضل هو تبني اكثر من طريقة في التحليل والتفسير.
ما كان الامر يحتاج الى المزيد من التوافق على الاداء الايجابي للتاثير الذي نفترض ان المقدس غاية في التاكيد عليه .
من الاساليب التي تجدها اليوم في العراق الاستثمار السلبي للمقدس هو الانماط السلوكية التالية:
1- استخدام المقدس في التاثير او صناعة الراي العام لاعتبارات سياسية.
2- ازدواجية النظرة الى المقدس وفق مصالح العلاقات الخارجية للمجموعات الاجتماعية.
3- تحويل المقدس الى اداة من ادوات الصراع وموضوعا اساسيا من مواضيعه.
4- تجريد المقدس من تاثيره عندما يصل التفاعل مع الاخر الى حالة الصراع.
5- الارتكاز الى المقدس في تشويه معنى وطبيعة الانجاز بمعنى ان الفشل في مجارات شروط الانتاج الاجتماعي يدفع الى الاختباء وراء المقدس وكانه حصان طروادة .
6- خلق نوع من الازدواجية في الخيال والسلوك الاجتماعي واوهام تؤكد ان العلاقة مع المقدس هي الكافية بحد ذاتها في اعفاء الافراد والمجموعات الاجتماعية من ايفاء بالتزاماتها الاجتماعية والعملية .
7- الايحاء ان العلاقة مع المقدس تمنح المشروعية السياسية فضلا عن المشروعية الاخلاقية والادارية.
8- النظر الى المقدس وكانه القادر على القيام بدور المنقذ والفاعل بالنيابة والتكليف عن المؤمنين به.
ومن الواضح ان في قداسة كربلاء ماهو اعلى من جهد العاملين عليها ومن هنا فان في امكانية استثمار هذه القداسة يمكن ان يحقق انجازا عمرانيا واجتمعيا وثقافيا وسياسيا كبيرا بشرط توفر القدرة على الاستثمار الصحيح.
أقرأ ايضاً
- استثمار زائف في ديمقراطية مملة
- الاستثمار في العراق سلاح ذو حدين !
- إشكاليَّة الاستثمار الصناعي في العراق