بقلم: علي الراضي الخفاجي
مهما كتب التاريخ من مآثر فإنَّ ألصق وصف يستحقه هو الخيانة، لأنه غالباً مايكون ألعوبة بيد المغرضين ووسيلة الطغاة لنيل التمجيد وتحقيق طموحاتهم في الرئاسة والغلبة، ولأجل أن يبقوا على عروشهم يلجأون إلى سياسة التجهيل وطمس الحقائق، ومنها الإقدام على حرق الكتب والقراطيس والآثار، وهي ليست جديدة، فقد تحدث التاريخ العام عن أنَّ الظاهرة قديمة، وشيئاً منها كان عند الإغريق حينما تهافت الفلاسفة وانتصر كل واحد منهم على الآخر لرأيه ومدرسته، ولأجل ذلك أقدم بعضهم على حرق كتب الآخر، أما في تاريخ الإسلام فقد وقع كثيراً منها إما إحراقاً أو إغراقاً أو تمزيقاً، فإنَّ النزوع ضد العلم والمعرفة والثقافة قديمٌ، فقد تطرق عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902م) في كتابه طبائع الاستبداد إلى ذلك بقوله:(فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم، فلا يخفى على المستبد- مهما كان غبياً- أن لااستعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرعية حمقاء تخبطُ في ظلامةِ جَهْلٍ وتَيهِ عماء).
كما مارست الطوائف الإسلامية حرق الكتب والآثار ضد بعضها، وقد تقدم السلطة على هذه الفعلة لأغراض سياسية تقف وراءها ولاءات وانتصارات، كما أقدمت على إحراق كتب ابن رشد وابن حزم والغزالي.
أما في مجال الحديث والسيرة فقد اتفقت المصادر على أنَّ أول من صنف في المغازي والسيرة النبوية عبيد الله بن أبي رافع خادم النبي صلى الله عليه وآله، وذلك على عهد أمير المؤمنين عليه السلام، كما في الذريعة، 17: 153، وكان أبوه أبو رافع مرجعاً في السيرة:(كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ماصنع النبي صلى الله عليه وآله يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواحٌ يكتبُ فيها). تقييد العلم، ابن عبد البر: 92، والإصابة، ابن حجر: 4 : 125، ولكن ذهبت هذه الآثار بفعل سياسة الحكومات في إحراق الكتب والقراطيس أوتضييعها.
يذكر صاحب كتاب (الأخبار الموفقيات) الزبير بن بكار، ص: 222، وهو من أبواق السلطة كيف طلب سليمان بن عبد الملك (ت 99هج) من أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وآله ومغازيه، فكتب أبان، فلما صار إلى سليمان نظر فإذا فيه ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر، فقال: ماكنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل فإمَّا أن يكون أهل بيتي غُمصوا عليهم، وإمَّا أن يكونوا ليس هكذا، ثم أمر بالكتاب فحُرق.
وقد حرصت الحكومات على إحراق كتب شيعة أهل البيت عليهم السلام، ومع ذلك سلمت من أيديهم ثروة كبيرة أغنتْ فصولاً من السيرة النبوية الشريفة، قال مسلم في مقدمة صحيحه: 1: 15:(الجرَّاح بن مليح يقول: سمعتُ جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر الباقر عن النبي صلى الله عليه وسلم).
ويكفيك مثالاً على سياستهم ماقاموا به من طمس آثار كتب جابر بن يزيد الجعفي وأحمد بن عقدة وسليمان الأعمش، وهم من العلماء الموثَّقين عند الفريقين، فقد أحرقوا كتبهم وفقدت من تلاميذهم نتيجة القتل والتشريد، فقد بلغت مُدوَّناتهم نحو أربع مئة ألف حديث، وهذا ماجعل المنصور العباسي يحضر سليمان الأعمش ليمنعه من رواية مناقب الإمام علي عليه السلام وقال له:(فأخبرني بالله وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله كم رويت من حديث علي بن ابي طالب وكم من فضيلة من جميع الفقهاء؟ قلتُ: شيء يسير ياأمير المؤمنين، قال: كم؟ قلتُ: مقدار عشرة آلاف حديث، ومايزداد).
قال:(ياسليمان ألا أحدثك بحديث في فضائل علي يأكل كل حديث رويته عن جميع الفقهاء؟ فإنْ حلفت لاترويه لأحد من الشيعة حدثتك به). فضائل علي، ابن المغازلي، ص/226، لكنها سياسة التجهيل وإخفاء الحقائق التي قال عنها الحاكم(عبد الملك بن مروان)لابنه سليمان عندما أخبره بإقدامه على حرق أخبار الأنصار مُبرِّراً أنها تخدم مؤيديهم من أهل الشام:(تُعرِّف أهل الشام أموراً لانريد أن يعرفوها)، يقصد فضائل الأنصار، ومنشأ تلك المخاوف أنَّ ثورة أهل المدينة على الأمويين في(وقعة الحرَّة) عام 63هج تركت آثاراً بقيت حيَّة في ذاكرة الناس، وبما أنَّ أهل الشام هم المستهلكون والمُروِّجون لإعلام السلطة، وهم عسكر الحكم الأموي لمحاربة الثورات، ومنها ثورة الحرَّة التي كان معظم ثوارها من الأنصار، ما جعل عبد الملك يوافق ابنه في حرق الكتاب الذي يذكر فضائلهم، وذلك يجعلنا نتذكر ما رواه التاريخ عن استغراب الرجل الشامي حينما سمع باغتيال أمير المؤمنين عليه السلام أنه اغتيل وهو في حال الصلاة.
وقد يقدم الحاكم أحياناً على توسيع دائرة اتهامه لخصومه حتى لو كان الاتهام حقيقياً لأجل تصفية معارضيه وتأسيس شرعية لسلطانه، كما تصدى المهدي العباسي(ت169هج)للزنادقة، حتى أنَّ الذهبي(ت 748هج)قال عنه في تاريخ الإسلام:(إنه بالغ في إتلاف الزنادقة وأحرق كتبهم لما أظهروا المعتقدات الفاسدة).
ومن نكسات التاريخ ما وقع من تضييع للعلوم مثلما لم يحفظ المسلمون أسباب نزول الآيات والسور وأوقاتها مما جعل الأمة تتخبط في مسألة أسباب النزول كاختلافهم في آخر آية نزلت، مع أنَّ أمير المؤمنين وأولاده صلوات الله عليهم كان عندهم علم التنزيل والتأويل، وأما الشعر الذي قيل عنه أنه(ديوان العرب)فقد أخفى التاريخ كثيراً من شعر أبي طالب عليه السلام، وكان شعره مصدراً للسيرة، فعن الإمام الصادق عليه السلام:(كان أمير المؤمنين عليه السلام يعجبه أن يُروى شعر أبي طالب وأن يُدوَّن)، وقال:(تعلَّمُوه وعلِّمُوه أولادكم فإنَّهُ كان على دين الله وفيه علم كثير). إيمان أبي طالب للمفيد: 10، مكاتيب الرسول للأحمدي، 1: 378، ولكن لم يصل منه إلا نحو ألف بيت تكشف عن حقائق مهمة من سيرة النبي صلى الله عليه وآله من قبل البعثة إلى كفالته، ومحاولة اليهود قتله، ثم بعثته وتكذيب قومه له إلى قرب هجرته، ولكن أتباع السلطة أعرضوا عن شعره وأخفوا منه الكثير بغضاً لابنه والأئمة من ذريته صلوات الله عليهم.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً