- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الخامس
بقلم: حسن الجنابي - وزير وسفير سابق / أجزاء من كتاب سينشر قريباً
الكثير من مواقف وإجراءات صدام حسين وحكومته بحق بعض الأفراد والفئات مستغرَبة وغامضة، وقد يتحول فيها «البطل» الحائز على أكثر أنواط الشجاعة عدداً، وعلى يد صدام حسين شخصياً، الى «جبان» أو «خائن» في يوم آخر وينفذ فيه حكم الإعدام بتهمة قد تكون ملفقة. هذا ما جرى لضباط الجيش بارق الحاج حنطة وزملاؤه من قادة الجيش، وفي تعيين شخص في أعلى المستويات بعد إعدام شقيقه كما جرى لناجي صبري الحديثي وغيرهم.
ينطبق الأمر على الموقف من السفراء أيضاً. ففي تلك الحقبة كان السفراء يعاملون على اعتبارهم من كبار مسؤولي الدولة المؤتمنين على سيادتها ويجري التعامل معهم على هذا المستوى. وما عدا بعض الإستثناءات فإن اختيارهم كان يخضع الى معايير محددة وليست عشوائية. وكذلك كانت سياقات التعيين والتدرج الوظيفي والترقية في السلك الدبلوماسي محترمة الى درجة معقولة، إذا ما استثنينا الطبيعة القمعية والنزعة الشكوكية والتجسسية للبعث، التي كانت تمارس في كل مؤسسات الدولة، والتي كان ينتج عنها إقحام عناصر معينة بمواقع وظيفية دون استحقاق لأسباب معروفة.
أما السفراء الذين كانت تثار بشأنهم قضايا أو يتهمون بتجاوز صلاحياتهم أو وظائفهم، فكانت تُشكَّل لجان رفيعة المستوى للتحقيق معهم بسرية بالغة، وترفع توصيات اللجان الى صدام حسين شخصياً للموافقة من عدمها. وفي كلتا الحالتين يجري الاحتفاظ بسرية الإجراءات دون الإساءة الى سمعة السفير لأنها من سمعة الدولة.
مع ذلك استمرت حكومة صدام بترهيب أو إهانة من ترتأيه من سفرائها دون خجل او تردد. فالسفير ونائب رئيس الجمهورية والوزير السابق، وأحد قادة الإنقلاب البعثي صالح مهدي عماش أستدعي من مقر عمله الى جبهة القتال أثناء الحرب العراقية-الإيرانية “للمعايشة” وهو مصطلح أشيع حينها لإطلاع المسؤولين على ظروف الحرب في جبهات القتال. وكان ذلك بقصد إهانته برغم كون إبنته هدى صالح مهدي عماش مقرّبة من صدام حسين وفي قيادة حزب البعث الحاكم وعضو في القيادة القطرية للحزب وتترأس برنامج الأسلحة الجرثومية في العراق.
جرى كذلك استدعاء سفراء وموظفين كبار من البعثات العراقية في الخارج ليتعرضوا للإعتقال والتعذيب بسبب وشايات وشكوك، كما جرى للسفير العراقي لدى هنغاريا محمد حسين الشامي، او القائم بالأعمال العراقي حينها في مدريد السيد محمد الجابري في عام 1980، والسفير مدلول ناجي المحنة الذي إختفت آثارة في السجن بسبب انتقاده لصدام حسين كما يُعتقد، وقاسم السماوي الذي شغل منصب وكيل وزارة وقبلها سفيراً في بيروت، وقد تمت تصفيته في السجن بسبب إتهام ابن شقيقته بالإنتماء الى حزب الدعوة، وسجن السفير معز الخطيب بتهمة “التخاذل”، وقد حالفه الحظ في البقاء على قيد الحياة إذ أطلق سراحه لاحقاً، وهو شقيق السفير محي الخطيب الذي صار أميناً عاماً لمجلس الحكم، ثم سفيراً لدى اليونسكو.
هناك بالطبع عدد من السفراء الذين أعلنوا انشقاقهم عن نظام الحكم في عهد صدام حسين وطلبوا اللجوء السياسي في دول أخرى خوفاً من البطش أو الإهانة، ومنهم حامد الجبوري وهشام الشاوي وأرشد توفيق وصفاء الفلكي وغيرهم من ذوي الوظائف الدبلوماسية الرفيعة ممن رفضوا العودة الى العراق بعد استدعائهم او نقلهم الى المركز وطلبوا اللجوء في بلدان أخرى.
برغم التقييدات والتعليمات والصرامة والمراقبة، كان أداء الدبلوماسية العراقية فاعلاً. ولم يكن نظام صدام حسين معزولاً ومنبوذاً برغم الفظاعات والجرائم والمجازر التي ارتكبها، وبضمنها استخدامه الأسلحة الكيمياوية ضد مواطنيه في حلبجة وغيرها من المناطق.
صدام حسين نفسه لم يقمْ بزيارات خارجية إلا ما ندر. مع ذلك فقد احتفظ حتى لحظة غزوه للكويت، بعلاقات متطورة مع الدول العظمى، وبالأخص أعضاء مجلس الأمن الدولي. وقد ارتبط مع الإتحاد السوفيتي بمعاهدة صداقة وتعاون وفّرت له، بالإضافة الى إمدادات السلاح بكل أنواعه أثناء الحرب، تغطيةً سياسيةً شاملة مع المعسكر الإشتراكي وحركات اليسار العالمي، برغم قمعه للحزب الشيوعي العراقي وسحق اعضاءه وقتلهم وتشريدهم. لم يصدر آنذاك بيان إدانة واحد من اليسار الدولي او حكومات الدول الإشتراكية ضد سياسات القمع والإعتقالات والإعدامات التي طالت اليساريين العراقيين وغيرهم.
ومع فرنسا كانت علاقات العراق السياسية والإقتصادية والعسكرية متميزة، وقد وقفت فرنسا مع العراق في حربه ضد إيران بقوة وورّدت له مختلف الأسلحة المتطورة من طائرت وصواريخ مدمرة حديثة. حتى ان مقر الملحقية العسكرية العراقية في باريس كان أكبر من بناية السفارة العراقية نفسها، ومن الطريف انه تحول الى مقر للسفارة العراقية نفسها بعد 2003. ومن المثير للسخرية حينذاك، أنه أثناء زيارة صدام حسين الى باريس اقيمت له وليمة عشاء غريبة في حدائق قصر الإليزيه من السمك العراقي المشوي، المسمى محلياً بـ”المسكوف”، في إجراء غير مسبوق في تاريخ ذلك القصر الذي تخلى عن تقاليده العريقة لصالح صفقات السلاح الباذخة.
أما العلاقة الثنائية مع الولايات المتحدة فقد أوكلت الى دبلوماسيين معروفين من أمثال نزار حمدون ومَن هم على شاكلته، ونجحوا في إعادة العلاقة الثنائية، ورفع إسم العراق من القائمة التي كانت تعدّها الخارجية الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وصار بعدها العراق يتلقى دعماً لوجستياً مهمّاً من الولايات المتحدة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فضلاً عن دعم الدول الأخرى مثل ايطاليا والبرازيل وبلجيكا وغيرها.
لاشك أن المعايير المزدوجة في السياسة الدولية وخاصةً لدى الدول الغربية، قد لعبت دوراً كبيراً في الدعم الذي كان يتلقاه نظام صدام حسين، بتغاضيهم عن فظاعات الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان والقمع الممنهج في العراق، في سبيل زيادة أرباح الشركات المصدرة للأسلحة، وتلك العاملة في العراق في المجال الإنشائي. مع ذلك فقد كان بإمكان تلك الشركات أو شركات أخرى أن تستفيد من الطرف الإيراني إيضاً أثناء الحرب لكنها لم تفعل ذلك بنفس الدرجة التي كان يجري فيها العمل مع العراق، مع تأشير ان الموقف الأمريكي أثمر لاحقاً عما سمي “الإحتواء المزدوج” وهو مفهوم لا أخلاقي بطبيعته وغير معني بإطفاء النزاعات بقدر تأجيجها والإستفادة منها استراتيجياً.
لا تقوم السياسة العالمية والدبلوماسية قطعاً على المبادئ والأخلاق والنوايا الطيبة بل على المصالح. ومن اللافت بأن الطرفين المتحاربين العراق وايران غادرا في خضم انغماسهما بالحرب الطويلة والمدمرة المبادئ السياسية والأيديولوجيات المعلنة للحكومتين وضربا بها عرض الحائط.
فالعراق، وبغرض الحصول على الدعم الأمريكي أوصى سفيره في واشنطن محمد المشاط بعدم التعرض لإسرائيل داخل الولايات المتحدة. أما إيران فكانت تشتري سلاحها من “الشيطان الأكبر” أي الولايات المتحدة التي كانت بدورها تحوّل الأموال الإيرانية الى مرتزقة نيكاراغوا الذين كانوا يقاتلون الحركة الساندينية في فضيحة سياسية وأخلاقية مدوّية كشفت في عام 1987 سميت فضيحة “إيران - كونترا».
وكما ذكرت الأخبار المتداولة بكثرة حينها بأن نسبة كبيرة من السلاح الإيراني أثناء الحرب مع العراق كان مصدرها صناعات اسرائيلية، وهناك تقارير رصينة عن علاقةٍ ما بين حصول الإيرانيين على السلاح الأمريكي ومصائر المختطفين الأمريكان في لبنان. علماً أن هذا السلوك الإيراني المستهجن لم يكن يزكّي سلوك صدام حسين الذي لم يكن يتردد في استخدام أية وسيلة ممكنة للحصول على السلاح ومن أي مصدر كان، ولم يتورع عن رشوة المعنيين بكوبونات نفطية، إفتضح أمرها لاحقاً لتحشيد الدعم لنوايا وأفعال نظام الحكم، وغض الطرف عن أفعاله بما فيها استخدام الأسلحة المحرمة دولياً. وقد نشرت قوائم الحاصلين على تلك الكوبونات في صحيفة المدى العراقية وفي مواقع وصحف أخرى وكانت فضيحة مدوية في كل المقاييس.
يتبع..
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟