عباس الصباغ
لحد 1989 لم يكن اي احد يتوقع ان ينهار جدار برلين الذي أنشئ عام 1961 من اجل تقسيم المانيا الى اربعة اقسام وبحسب مزاج القوى التي تعاضدت من اجل اسقاط هتلر، فقد كان هذا الجدار يمثل ايقونة التقسيم والتجزئة ولعقود من الزمن شغلت فترة الحرب الباردة ونتيجة للإرهاصات التي رافقت تلك الحرب والضغوط النفسية التي كان تقف وراءها الماكنة الاعلامية لم يكن احد يتوقع ان يُحوّل هذا الجدار العملاق والاسطوري الى اطلال تذروها رياح التغيير .
وعلى غرار جدار برلين ومن نسق هذه الاستعارة فان اغلب العراقيين يراودهم الحلم نفسه في رؤية جدار المحاصصة وهو يتحول الى انقاض، وهو جدار شيّده التأسيس الدولتي الخاطئ غداة التغيير النيساني المزلزل ، وهو جدار عازل مابين الجماهير وبين طموحها في رؤية عملية سياسية نظيفة تقود وبحكم رشيد دولة عصرية ومدنية عابرة لكل اشكال المحاصصة المكرسِّة للتخندقات الاثنية والقومية والمذهبية والمناطقية والمشتِّتة للفسيفساء العراقية بألوانها الجميلة ، ولكن احلامهم ظلت بعيدة التحقق والانتقال الى حقيقة ملموسة ولأكثر من 16 سنة ذاق فيها العراقيون الامرّين ، وبعد ان ضاعت منهم الكثير من فرص التقدم والازدهار والمضي نحو تحقيق تنمية مستدامة والعيش الكريم.
المحاصصة العراقية التي تمأسست مع تشكيل مجلس الحكم الذي كان الأساس الأول الذي بنيت عليه كل التشكيلات الحكومية فيما بعد، ساهمت عمليا في تجذير اسس التحاصص السياسي وحسب مبدأ(هذا لك وهذا لي) وضمن نظرية الاستحقاق الانتخابي والمظلومية التاريخية ، فقد اريد للمحاصصة ان تكون وصفة جاهزة لاستيعاب تناقضات وتعرّجات المجتمع العراقي والحدّ من التصادم فيما بينها وذلك في وقت كانت العملية السياسية في مراحلها الجنينية البكر، وكانت بحاجة ماسة الى التماسك والتآلف وعدم التفريط بمنجزات التغيير النيساني، فقد كانت الخشية من الانزلاق نحو هاوية التفتيت المجتمعي قائمة فصارت حجّة بيد مهندسي العملية السياسية بصيغتها التحاصصية /التشاركية آنذاك والى الان ، لكن ذلك كان ولم تزل المحاصصة سلاحا ذا حدين ولم تسهم في حدودها الدنيا من الحيلولة دون وصول البلاد الى حافة الحرب الاهلية المدمرة ـ لاسمح الله ـ وكما حدث سنة 2006 من حدوث فتنة طائفية غداة تفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء بل ساعدت على اذكاء نار الفتنة بين شرائح النسيج المجتمعي العراقي ، كما انها لم تنجح في استيعاب التصدعات المجتمعية ، بل انها ساهمت في تصدّع الجبهة الوطنية وتشتيت الراي العام العراقي وتخلخل النسيج المجتمعي وتشظّي موقع القرار السياسي وعناصره الفاعلة في مفاصل العملية السياسية التي استنسخت النموذج اللبناني في تطبيق الديمقراطية التمثيلية وبأسوأ صورها ولم تكن موفقة تمام التوفيق في ذلك .
ولكن وبعد مرور اكثر من عقد ونصف على تأسيس العملية السياسية بصيغتها المعروفة وبعد ان زالت المخاوف من المخاطر المحدقة بتلك العملية والتي لم تعد فتية او الخوف على الدولة العراقية الفتية من التلاشي، او الخشية على المجتمع العراقي من الانزلاق في حرب اهلية طاحنة وبعد هذه التجربة الطويلة فلم تعد هنالك حاجة الى استمرار المحاصصة التوافقية / التمثيلية بين الكتل السياسية واستمرارها على هذا النهج الخاطئ هو أمر غير منطقي وغير مقبول ، والتي يفترض بها ان تتوخّى المصلحة العليا للبلد لا مصالحها الخاصة والمحاصصة تتنافى مع المصلحة العليا للبلد بل وتتقاطع معها وتتواشج في ذات الوقت مع مصالح الكتل السياسية التي استمرأت المحاصصة لتستمرّ في نهجها السياسي الضيق والبعيد عن مصالح الشارع العراقي، وهو ما كان احد الاسباب التي جعلت الشارع العراقي ينفجر في حراكه التشريني الاحتجاجي الدائر الان، والذي ثار على منظومة الاخطاء التأسيسية التي قامت عليها دولة مابعد 2003 ومن جملة هذه الاخطاء القاتلة المحاصصة المقيتة والتي كان نهجها خيارا انتحاريا قاد العراق نحو زوايا الفشل والانهيار وذلك عندما تحوّل الى نقطة قاتلة أصابت الجسد العراقي بالضعف والمرض, و ساهمت بصعود مسؤولين فاسدين وجاهلين , و ادت الى هدر المال العام وبأرقام فلكية باهظة فالقضاء على المحاصصة سيكون هو المفتاح لعملية سياسية نظيفة لعراق مزدهر وهو مايأمله الشارع العراقي في حراكه الاحتجاجي الغاضب والمطالب بان تسير العملية السياسية على السكة الصحيحة .
أقرأ ايضاً
- عراق المحاصصة .. سنوات من الخراب
- مقاربة بين خط سكك حديد برلين بغداد وطريق الحرير
- قد حذرت المرجعية الدينية العليا من مخاطر المحاصصة ..