- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الرأي العام.. وحيادية المحاكمة
بقلم: د. احمد طلال عبد الحميد البدري
اصدرت محكمة جنايات الكرخ / الهيئة الاولى بتاريخ 27/8/2023 حكماً يقضي بأدان مرتكبة جريمة قتل الطفل (موسى ولاء عبد الحسين) وفق احكام المادة (410/ الشق الاول ) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل بعد ان كيفت الواقعة بالضرب المفضي الى الموت ، وقد اثار قرار الحكم المذكور لغطاً في الاوساط الاجتماعية والقانونية وشهد استنكاراً للعقوبة المفروضة على مرتكبة الفعل من قبل الرأي العام متمثلاً بوسائل الاعلام المقروئة والمسموعة والمرئية، باعتبار ان العقوبة المفروضة بحق الفاعل وان كانت بالحد الاعلى، الا ان التكييف القانوني للفعل جاء غير منطبقاً على الفعل المرتكب، ونحن لسنا في هذا المقام بصدد التعليق على الحكم لان ذلك يتطلب الاطلاع على حيثيات ووقائع القضية وملابساتها وشهادات الشهود والتقارير الطبية وغير ذلك، كما يتطلب الاطلاع على قرار الادانة لمعرفة كيف توصلت المحكمة لهذا التكييف القانوني ، لكن اردنا تناول الموضوع من جانب اخر، فالرأي العام باعتباره تكوين حكم او فكرة معينة اتجاه شخص او وحدث او مجموعة من الاشخاص او الافكار يعد سلاح ذو حدين فهو من جانب يعكس مقدار الوعي والتعاطف من جانب المجتمع ونزوعه للدفاع عن نفسه بخصوص جريمة وقعت ضد طفل لايملك الحول والقوة في الدفاع عن نفسه بسبب صغر سنه ومحدودية ادراكه كونه طفل قاصر، من قبل شخص يفترض ان يكون اميناً على تربيته ورعايته وهذا الشخص هو زوجة ابيه التي قبلت رعايته في بيتها مع اولادها، فتطور الوعي الاجتماعي وانعكاسه على الرأي العام الذي يمثل اهم صور الرقابة الشعبية على السلطات الثلاث التي تمارس وظائفها بتفويض من الشعب يمثل ظاهر ايجابية، فالراي العام عندما يتوجه الى حماية المجتمع وقيمه الاساسية وينبه ابناء المجتمع الغافلين الى القضايا العامة التي تحتاج الى وقفة اجتماعية تضامنية لرد اي خرق او عدوان ينال من المجتمع وقيمه فأن ذلك يمثل طفره في الوعي المجتمعي.
من جانب اخر فأن القضاء الذي يتولى وظيفة تطبيق القانون من خلال تكييف الوقائع والادلة المتوفرة وتحديد العقوبات للافعال التي جرمها القانون، فهو لايحكم بالعاطفة وانما هو مقيد بقواعد اجرائية وموضوعية للوصول لادانة شخص ما وانزال حكم القانون عليه، كما انه مقيد بالادلة المادية المتحصلة من الجريمة وظروف وبواعث ارتكابها، ونحن في هذا المقام لسنا بصدد الدفاع عن الحكم الصادر من القضاء، لكن وجدنا من الاهمية والضرورة بيان اثر ومفاعيل الرأي العام وهي في الغالب متعددة ايجابية وسلبية على الاحداث الاجتماعية، فالرأي العام قد يشكل ضغطاً على حيادية عمل القضاء بسبب الاحكام المسبقة التي يطلقها الرأي العام في قضية ما او حدث ما ويتوقع ان تأتي الاحكام القضائية متطابقة او متوافقة مع احكامه، فألرأي العام ممكن ان يخل بمبدأ المحاكمة العادلة التي كفلها الدستور لكل مواطن ويحرم المتهم من ضمانات المحاكمة العادلة من خلال دفع المجتمع لتكوين فكرة او حكم مسبق عن شخص او حدث ما قد لايتطابق بالضرورة مع الحقيقة القضائية ، فالمحكمة العليا الامريكية قبل مائة سنة تقريباً قررت مبدأ مفاده (عدم الاخلال بشرط الوسائل القانونية السليمة) باعتباره ضمانة اجرائية، حيث اعتبرت في حكم لها صدر عام 1915 ان المحاكمة التي تجري بحق المتهم تحت ضغط جماهيري داخل المحكمة او خارجها تعد باطلة لوقوع خرق لمبدأ المحاكمة العادلة باعتبار ان الضغط الجماهيري يخل بحيادية المحكمة او يؤثر على وجدانها وقناعاتها، كما ذهبت في حكم اخر لها صدر عام 1923 الى بطلان المحاكمة التي يسيطر على جوها الفوضى والتجمهر لانها لاتعد محاكمة نزيهة يقبلها شرط الوسائل القانونية السليمة ، وما نبتغي قوله بأن الضغط الجماهيري والرأي العام الذي يتضمن احكاماً مسبقة بدوافع انسانية او اجتماعية يشكل ضغطاً على ارادة الهيئات القضائية ويؤثر على وجدان المحكمة وقناعاتها لان القاضي في المحصلة هو انسان يتأثر في محيط واقعه الاجتماعي ، ولذلك يفترض ان يؤدي القاضي مهامة بدون ضغوط اعلامية او تجمهرات بشرية ولان الاحكام القضائية تخضع لرقابة وتعقيب محكمة عليا وهي محكمة التمييز الاتحادية التي تراقب التناسب والملائمة والقانون والوقائع ، والخلاصة ان الرأي العام اذا ما ادى وظيفته الرقابية والتوجيهية والاجتماعية يجب ان لايتحول الى وسيلة لخرق مبادىء دستورية اخرى كمبدأ المحاكمة العادلة وحيادية واستقلال القضاء ... والله الموفق.
أقرأ ايضاً
- النشر الصحفي لقضايا الرأي العام
- وسائل تضليل الرأي العام
- الصياح.. بين الرأي الشرعي ودائرة التحليل النفسي