- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
السياسة التجارية للعراق.. من فرضية النمو الى الهدم الاقتصادي

بقلم: د. حامد رحيم جناني
إمكانات العراق الاقتصادية كبيرة جدا، وبسبب الظروف السياسية وغياب الاستقرار وفقدان المسارات الرشيدة في اجندات الحكومات المتعاقبة على إدارة البلاد بعد عام التغيير السياسي تأخر مشروع التنمية الاقتصادية كثيرا بالتزامن مع فرص اتيحت للنظام منها إزالة العقوبات الدولية والانفتاح العالمي على العراق والعوائد المالية المتحققة عن مبيعات النفط وغيرها، ولا ننسى دور الإرهاب الذي استنزف جهود وموارد كبيرة، كل هذه العوامل وغيرها كانت معوقة للانطلاق نحو التنمية الاقتصادية.
وبعيدا عن تحليل تلك العوامل ودورها في التأثير على مسارات النشاط الاقتصادي، نحاول ان نسلط الضوء على عامل مهم جدا تصدر المشهد الاقتصادي يتمثل بدور السياسية التجارية للعراق وتأثيرها على واقع التنمية الاقتصادية المنشودة عبر طرح السؤال الاتي :
هل هناك تقارب بين الأثر الإيجابي المفترض نظريا للتجارة الخارجية المتمثل بإيجاد المقدمات لتحقيق التنمية الاقتصادية ومن ثم تعزيز النمو المستدام عبر ادبيات المدرسة التجارية على ضوء معادلة الدخل الكلي وواقع السياسة التجارية للعراق بعد عام 2003 ؟ وقبل اطلاق الاحكام لا بد من مرور خاطف على تنظيرات اقتصادية في هذا المجال تجعلنا نصل ولو تصورات عن هذه المحاور.
لم تكن ادبيات الفكر التجاري لحظة عابرة او انها مرحلة جاءت نتيجة لأحداث طارئة، بل كانت ثورة فكرية تمخض عنها تحولات جوهرية في السياسة الاقتصادية العامة للدولة في اوربا، فبعد ان عاشت القارة في ظل ركود وانغلاق اقتصادي حتى سميت مرحلة القرون الوسطى ان ذاك (بعهد الضيعات) دلالة على الانغلاق المناطقي ونشاط اقتصادي يستند الى الاكتفاء الذاتي ولم يكن للفائض الإنتاجي اثر معتد به اقتصاديا في تلك الضيعات.
المدرسة التجارية التي ظهرت بفلسفة اقتصادية جديدة في حينها لتسدل الستار على الفترة المشار اليها وتقدم رؤيتها المستندة الى ثنائية (النشاط الاقتصادي والدولة القوية) اذ اعتبرت ان تركز الثروة بشكلها المعدني (الذهب) بشكل خاص مصدر لقوة الاقتصاد ومن ثم قوة الدولة، ليتطور هذا المنظور تدريجيا ليتناول قضية (ميزان المدفوعات) وتحول التنظير الى احداث الفائض في هذا الميزان لصناعة تراكم رأسمالي داخل النشاط الاقتصادي ويتم ذلك عبر التنافسية القادمة من جودة المنتج السلعي وانخفاض التكاليف الإنتاجية وكان لوزير المالية الفرنسي (كولبير) البصمة الأولى في هذا التنظير.
ومن جانب اخر ان معادلة النمو الاقتصادي وفقا للمدرسة الكينزية تقوم على الاتي:
الدخل = الانفاق الاستهلاكي + الانفاق الاستثماري + الانفاق الحكومي + صافي الميزان التجاري ( الصادرات – الاستيرادات).
واستناداً لهذه المعادلة فان النمو في الدخل الكلي مرهون بهذه المتغيرات فأي ارتفاع في قيمة هذه المتغيرات يقود الى نمو اقتصادي والعكس صحيح. لذلك ركزت المدرسة التجارية في تنظيرها الى صافي الميزان التجاري عبر التركيز على الصادرات لتكون بوابة النمو الاقتصادي عبر الفائض المتحقق الذي يتحول الى رأسمال يحفز الانفاق الاستثماري مما يؤدي الى ارتفاع مستوى الدخل الفردي ومن ثم ارتفاع الانفاق الاستهلاكي وتعزيز قدرة الحكومة على الانفاق الداعم للنشاط الاقتصادي عبر السياسات التدخلية في النشاط الاقتصادي والنتيجة نموا اقتصاديا شاملا.
وفقا لما تقدم فان تحليل السياسة التجارية في العراق بعد عام التغيير السياسي 2003 يظهر بوضوح الأثر العكسي لتلك السياسة في احداث النمو الاقتصادي وحتى الأثر التنموي المنشود، فبالرغم من الإيرادات المتحققة من تصدير النفط التي وصلت الى ارقام كبيرة جدا على مدار السنوات الواحد والعشرين الماضية الا انها لم تحقق الأثر التنموي الى الان نتيجة لاختلال المعادلة الإنتاجية التي رسخت النمط الريعي واستفحال ظاهرة (المرض الهولندي) الذي يعني الاعتماد على المصدر الأحادي في توليد الدخل واهمال القطاعات الأخرى وهذا ما تثبته ارقام الناتج المحلي الإجمالي التي تبين ان مساهمة الصناعة الاستخراجية بمعدل نسبة فاقت (60%) مقابل مساهمة الصناعة التحويلية التي لم تتجاوز معدل نسبة (2%) فقط والنشاط الزراعي الذي لم يتجاوز معدل نسبته (5%)، وهذا ما يوضحه الجدول القادم.
الجدول رقم (1) يبين نسب مساهمة الأنشطة الاقتصادية القطاعية في الناتج المحلي الإجمالي للعراق (بالأسعار الثابتة)السنة الزراعة والغابات والصيد النفط الخام التعدين والمقالع الصناعة التحويلية التشييد والبناء الكهرباء والماء النقل والاتصالات والخزن تجارة الجملة والمفرد والفنادق وغيرها المال والتأمين وخدمات العقار خدمات التنمية الاجتماعية والشخصية.
مقابل ذلك وبسبب عجز النشاط الإنتاجي الوطني عن تلبية الطلب الكلي الداخلي مع الاقتران بارتفاع مستوى الدخل نتيجة لإيرادات النفط والانفاق الحكومي الكبير وبشقة المتمثل بالأجور المدفوعة للأفراد وغيرها من أبواب الانفاق، تضخمت الاستيرادات عام بعد عام والشيء الملفت للنظر ما حصل من زيادات في مبيعات البنك المركزي العراقي.
ويوضح الجدول القادم حجم التطور في مبيعات البنك المركزي العراقي من الدولار عبر النافذة لتلبية متطلبات التجارة الخارجية للعراق.
خلال عامي 2023 و 2024 اذ بلغت مبيعات البنك في السنة الأولى قرابة (56) مليار دولار لتكون في السنة الثانية قرابة (81) مليار دولار محققة زيادة مقدارها (24،9) مليار دولار.
ان تحليل هذه الأرقام لا يأخذ بنظر الاعتبار الشبهات المرافقة لعمل نافذة بيع العملة والمنافذ الحدودية غير الرسمية وسياسات الإقليم الكردستاني التي لا تخضع في الغالب للسياسات المركزية، ويأخذ بنظر الاعتبار المعدلات في الزيادة فقط لغرض بيان اثر السياسة التجارية. ان الأسباب الكامنة خلف هذه الظاهرة تكمن في مجموعة عوامل منها:
1. ارتفاع الطلب الكلي الداخلي نتيجة لتحسن مستويات الدخل كما اشير له انفا.
2. غياب الدور الفاعل لجهاز التقيس والسيطرة النوعية الامر قاد الى استيرادات سلعية غير جيدة سريعة التلف الامر الذي يرفع من حجم الاستهلاك نتيجة لتلك الخاصية.
3. غياب الدور الفاعل للسياسات الضريبية الحكومية المحجمة للاستهلاك غير الضروري.
4. مشكلة المنافذ وغياب الحوكمة الامر الذي انعكس سلبا على تطبيق سياسات الحماية وغيرها.
5. غياب الدور الفاعل لسياسات حفز الادخار بسبب تخلف الجهاز المصرفي واعتماد الكثير من المصارف على أرباح الدخول للنافذة.
ان الأثر المتحقق لما تقدم من تحليل يشير بوضوح الى ان السياسة التجارية بشكلها الحالي تعوق التنمية الاقتصادية المنشودة في العراق، وذلك بالاستناد الى نموذج ( هاردو _ دومار) الاقتصادي الذي يقرن التنمية الاقتصادية بتراكم راس مال عبر سياسات حفز الادخار ومن ثم توجيه المدخرات الى الاستثمار شروط لاحداث التنمية الاقتصادية ومن ثم الوصول الى معدلات نمو إيجابية متراكمة ومستدامة.
ان (ميكانزم) عمل السياسة التجارية تقوم على أساس تصدير النفط وتحقيق عوائد دولارية يتم مقايضتها مع البنك المركزي وتحويلها الى العملة الوطنية لكي تتوجه عبر الموازنة الحكومية بشقها الأكبر الى الانفاق التشغيلي ليقوم البنك المركزي بعدها بتحويلها (الشق الأكبر) الى تلبية طلب التجار ومن ثم تحويلها الى الخارج لعقد صفقات الاستيرادات مما ينسف فكرة (تراكم راس المال) الركيزة الأساسية في النموذج التنموي المشار اليه، لذلك تفكيك هذه المعادلة يتطلب معالجة الخلل المشار اليه في النقاط انفا.
وعليه فان السياسة التجارية للعراق في شكلها الحالي هادمة لفكرة التنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي.
أقرأ ايضاً
- العقوبات البديلة في اطار الجرائم الاقتصادية
- في العراق.. السياسة بوصفها مهاترات وثرثرة
- انتهاء الازمة الروسية الأوكرانية وتأثيرها الاقتصادي على العراق