طوبى لمن يغترف من معين أخلاق أهل البيت عليهم السلام الفياض ويقتبس من أنوارهم الساطعة ويستلهم منهم الدروس والعبر في التعامل الإنساني مع المخالف فضلا عن الموالف، فالخصال والأعمال الفاضلة والكريمة التي كان يتحلى بها أئمة الهدى والفرقان، حري بكل من يريد العزة والمنعة أن يجعلهم أسوة لكسب حياة ملئها التفاهم والسعادة، وهكذا كان أئمة أهل البيت عليهم السلام في مكارم أخلاقهم، وسمو آدابهم، وقد حمل الرواة إلينا صوراً رائعة ودروساً خالدة من سيرتهم المثالية، وأخلاقهم الفذة:
من ذلك ما ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام قال: ورد على أمير المؤمنين عليه السلام مؤمنان، أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين يديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب ومنديل، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام الابريق فغسل يد الرجل بعد أن كان الرجل يمتنع من ذلك، وأقسمه أمير المؤمنين عليه السلام أن يغسل مطمئناً، كما كان يغسل لو كان الصابّ عليه قنبر ففعل، ثمن ناول الابريق محمد بن الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن اللّه عز وجل يأبى أن يُسوي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصب محمد بن الحنفية على الابن. ثم قال العسكري عليه السلام: فمن اتبع علياً على ذلك فهو الشيعي حقاً.
وورد أن الحسن والحسين مرّا على شيخ يتوضأ ولا يُحسن، فأخذا في التنازع، يقول كل واحد منهما أنت لا تحسن الوضوء ، فقالا: أيّها الشيخ كن حَكَماً بيننا، يتوضأ كل واحد منّا، فتوضئا ثم قالا: أيّنا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدّكما.
وجنى غلام للإمام الحسين عليه السلام جناية توجب العقاب عليه، فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي والكاظمين الغيظ، قال: خلّوا عنه، فقال: يا مولاي والعافين عن الناس، قال: قد عفوت عنك، قال: يا مولاي واللّه يحب المحسنين، قال: أنت حرّ لوجه اللّه، ولك ضعف ما كنت أعطيك.
وحدّث الصولي: أنه جرى بين الإمام الحسين وبين محمد بن الحنفية كلام، فكتب ابن الحنفية إلى الحسين: «أما بعد يا أخي فإن أبي وأباك علي لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمّك فاطمة بنت رسول اللّه، لو كان ملء الأرض ذهباً ملك أمي ما وفت بأمك، فإذا قرأت كتابي هذا فصر إليّ حتى تترضاني، فانك أحق بالفضل مني، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته» ففعل الحسين فلم يجر بعد ذلك بينهما شيء.
هذا غيض من فيض حلمهم وصفحهم وعلو شأنهم ومقامهم الشامخ، إنهم فعلا أهل بيت الرحمة والبركة والعطاء، جاءوا رحمة للعالمين يسعون جاهدين لانتشالهم من المهاوي والمفاسد إلى الأعالي والكمالات، كانوا بأفعالهم وأقوالهم وتقاريرهم قرآنا يمشي على الأرض ومناقب متنقلة تقذف بشآبيبها كل قريب وبعيد، فهم أولى من غيرهم بالتأسي وهم خير قدوة لمن أراد حياة مفعمة بالتسامح والانسجام، فكم نحن بحاجة إلى أخلاقهم في حياتنا اليومية لكي نحل بها الكثير من المشاكل التي تنتابنا.
الشيء الجامع بين هذه الطائفة المنتخبة من القصص هو التواضع الذي كان يتحلى به أئمة الهدى، بالرغم من المنزلة العلمية الرفيعة التي كانوا يتمتعون بها، بيد إنهم يعلمون إن الكبرياء رداء اختصه الله تعالى لنفسه ومن يخاصمه رداءه يقصم ظهره، وإن الكثير من الابتلاءات التي تتكالب علينا منطلقها وأساسها الكبر والنظرة الفوقية لبعض المتنفذين لمن سواهم من شرائح المجتمع، والذي يصاب بهذه الآفة الفتاكة يكون وبالا على المجتمع يبتعد عنه المخلصون ويجتمع حوله المتملقون المتزلفون، حينئذ تنزل البلايا والكروب علينا كقطع الليل المظلم وهو ما نراه جليا وواضحا في الكثير من الأنظمة الشمولية التي لا نحصد من وراءها سوى المصائب والتخلف والمحن، أما إذا اتصف الناس ولاسيما علية القوم بالتواضع والنزول في الشارع والاستماع إلى مشاكل الناس بكل روية ومحاولة وضع الحلول الناجعة لها وتسوية المشاكل التي تواجههم بكل أناة وصبر وشكيمة، هذه الأمور كلها تصب في خانة الرقي والتقدم للمجتمعات الإنسانية، التي إذا ما أرادت النجاح والهداية والتوفيق ما عليها إلا انتهاج طريق التواضع والتواصل الاجتماعي الذي اختطه أئمة أهل البيت وهو واضح المعالم لمن أراد النجاة من مهالك الدنيا الفاتنة.
وتخيلوا لو إننا كمجتمع فيما بيننا على نطاق الأسرة والمجتمع وعلى نطاق العلاقة فيما بين الحاكم والمحكوم، إذا تمسكنا جميعا بأخلاق أهل بيت الرحمة والرأفة وجعلنا سيرهم الوضاءة نبراسا للهداية ومتراسا للحماية، إذا تمسكنا بالصفح بدل العدوان، والمحبة بدل العداوة، والأمانة بدل الخيانة، وصلة الرحم بدل قطيعة الرحم، والظن بالخير بدل الظن بالسوء، ومقابلة السيئة بالحسنة بدل مقابلة السيئة بالسيئة، وسعة الصدر بدل ضيق الصدر، والتأني قبل إصدار الحكم بدل الإسراع في إصدار الحكم، لو إننا حاولنا أن نتخلق بأخلاق الرسول والأئمة الكرام المسطرة في كتب التاريخ والتي يطأطأ لعظمتها الأعداء قبل الأصدقاء، لتغلبنا على الكثير من المشاكل، وردمنا مستنقعات آسنة من العداوة والبغضاء والإحن والشرور والفتنة التي لا تزال تفتك بالمجتمعات المتخلفة وتكون عائقا أمام تقدمها ورقيها، ولارتقينا بأن نكون سادة مجتمعاتنا بل سادة العالم بلا منازع.
أقرأ ايضاً
- الأخلاق المحمدية
- الكربلائي لطالبات جامعة الزهراء... اقتدين بالزهراء علما وأخلاقا
- الإعداد الروحي.. الأخلاق وأثرها في الجانب الروحي ـ الجزء الثالث عشر