بقلم: القاضي ناصر عمران
شكلت الثورة الهائلة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي فتح فيها النصف الثاني من القرن العشرين الباب واسعا إلى حياة حافلة بالاتصالات السريعة والتحديات الكثيرة، ففي الوقت الذي حقق التقدم التكنولوجي والعلمي في مجال الاتصالات مصالح جديدة ونشوء حقوق متعلقة ومرتبطة به، فانه في الجانب الآخر أدى إلى تهديد لبعض الحقوق والحريات، فالقفزة العلمية التي تحققت بوجود الحاسبات وطاقاتها الاتصالية المتشعبة، اختصرت العالم وحجمت المسافات وصار العالم الواسع قرية صغيرة.
ولا نغالي إذا ما قلنا إن تكنولوجيا الحاسبات شكلت محورا تفاعليا مهمة في عمل جميع القطاعات الحياتية بل وربطها برابط تقني قادر على انجاز المهمات المكلف بها من خلال تغذيتها بالبيانات والمعلومات، لتتحقق النتائج المذهلة لها (آلية جديدة عابرة للزمان والمكان) تشعر خلالها انك في عوالم أخرى، فقد ولى زمن الروتين المقيت والعمليات الحسابية التي تستهلك من الورق والجهد الكثير بانتظار النتائج القابلة للتغيير والتعديل والإلغاء المرتبط بالمكنة العقلية الطبيعية وهي بالفعل أفرزت حياة جديدة، وإذا كانت التكنولوجيا قد أبرزت هذه الحياة الجديدة التي لم نكن نعرفها أو نألفها فان فرضيات التطبيق أنتجت لنا واقعا متغيرا لم نعد نستطيع الابتعاد عنه أو التخلي عن خدماته وهذا الواقع التقني الجديد أفرز علاقات متعددة جديدة وجد الناظم القانوني نفسه امامها عاجزاً بمواجهة ما يجري، وإذا كان له من تكيف مع الخدمات والعلاقات التي دخلت عوالم اتصالية جديدة اتسقت مع اتجاهات معينة فرضها العادي واليومي والمتغير على طبيعة من العلاقات الجديدة فقد وجد الأفراد أنفسهم أمام بناء علاقات قادرة على المواءمة مع عجلة الحياة السريعة وفرض الالية التنظيمية يأتي في كثير منها لإقرارها سواء أكانت عقود أم علاقات عمل وكلها تدخل في الجوانب المدنية والاقتصادية والتجارية.
كما ان هناك متسعا للضابط المدني مشرعا وقاضيا لتنظيمها او الفصل فيها مرتهناً الى منجزها العلائقي، لكن الامر يختلف بالمقابل، فهناك انماط جديدة من الاجرام بحاجة الى وضعها في قالب جنائي جديد، فالنصوص الجنائية التقليدية لم تعد تواكب مديات التطور، واذا كان الناظم المدني للقانون يمتلك من السعة والتحول في المصادر القانونية للبحث عن حلول للمشكلات القانونية الناجمة عن هذا التطور الالكتروني التقني كما اوضحنا، فان الجانب الجنائي القائم على مصدر واحد هو التشريع مستنداً الى قاعدة (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص) بحاجة الى رؤية شاخصة وفاحصة تستطيع تفجير طاقة النصوص التقليدية القديمة التي لم تعد ملاءمة لحالة الانماط الجديدة من الاجرام والعبور بها الى مراحل التشريعات المعلوماتية الجديدة والتي تشكل الجريمة الالكترونية جزءً مهما فيها.
إن نمط الإجرام المقترن بالثورة التقنية لوسائل الاتصالات مرتبط بالبيانات المُخزنة واستعمالاتها غير المشروعة او الاعتداء على هذه المعلومات، وظهرت محاولات قانونية لتنظيم هذه الأنماط القائمة على سوء استخدام تلك لمعلومات في الحاسوب الآلي، ومن خلالها ظهر مفهوم جرائم المعلوماتية انطلاقا من المعلومات المخزنة في الحاسوب وما يجري عليها من نشاطات، وقد بُذلت جهود عديدة لتعريف ما يصطلح على تسميته (بجرائم المعلوماتية ) حيث ضيق البعض في التعريف فقالوا انه : (كل سلوك غير مشروع يكون العلم بتكنولوجيا الحاسبات الآلية بقدر كبير لازما لارتكابه من ناحية ولملاحقته وتحقيقه من ناحية اخرى) في حين توسع آخرون في التعريف فقالوا: (انه كل فعل غير مشروع يتم بمساعدة الحاسب الآلي) وابتعد بعضهم أكثر حين ذهبوا بالقول: (انه كل سلوك غير مشروع او غير أخلاقي او غير مصرح به يتعلق بالمعالجة الآلية للبيانات أو بنقلها).
وأياً تكن التعاريف التي قيلت فان الجريمة الالكترونية هي: نوع من انواع جرائم المعلوماتية، لم تضع الكثير من القوانين تعريفاً لهذه الجريمة منطلقين من ان التعريف بالجريمة يحددها ويجعلها في قالب معين لا يمكن الخروج منه، لكن البعض ومنهم المشرع الأمريكي كان له رأي آخر فنص في القانون الامريكي الخاص بجرائم الحاسوب لعام 1986 على تعريف الجرائم الالكترونية بأنها الاستخدام غير المصرح به لأنظمة الحاسوب المحمية او ملفات البيانات او الاستخدام المتعمد او الضار لأجهزة الحاسوب وتتراوح خطورة تلك الجريمة بين جنحة من الدرجة الثانية الى جناية من الدرجة الثالثة)، ولان التعاريف عمل فقهي فقد ذهب الفقه القانوني في تعريف الجريمة الالكترونية الى عدة اتجاهات: الاتجاه الاول يراها نشاطا غير مشروع يتم توجيهه لنسخ او تغيير او حذف او الوصول الى المعلومات المخزنة داخل الحاسوب او التي تتحول عن طريقه، في حين يراها اتجاه ثان كل اشكال السلوك غير المشروع الذي يُرتكب باستخدام الحاسب الآلي، ويراه اتجاه ثالث اعتداءً قانونياً من الممكن ان يتم ارتكابه عن طريق الوسائل الالكترونية ويهدف لتحقيق الربح.
وبخصوص الطبيعة القانونية للجرائم الالكترونية فإننا نجد أن الحديث عن طبيعتها يتمحور حول وضع البيانات والمعلومات القانوني وهل هي قيمة بحد ذاتها ام أنها تستمد قيمتها باعتبارها مجموعة قيم مستحدثة يمكن الاعتداء عليها.
وبالاستناد الى القواعد العامة فان الاشياء المادية وحدها قابلة للحيازة ويجب ان نكون مادية ملموسة حتى يمكن انتقاله أو حيازته ليتم الاعتداء عليها وبما ان المعلومات والبيانات ذات طبيعة معنوية ولا يمكن اعتبارها من قبيل القيم القابلة للحيازة فان هناك من يرى بان امن المعلومات والبيانات قيم مستحدثة قابلة للاستحواذ عليها ومستقلة عن دعامتها المادية فالمعلومات تقترن بصاحبها كما هو الحال في علاقة المؤلف بمؤلفه وبالتالي هي تستحق الحماية القانونية ويتم التعامل معها معاملة الاموال.
وإذا كانت هناك اراء متعددة على تعريفها وطبيعتها القانونية فان هناك اتفاقا على تميز وتفرد خصائصها عن الجرائم التقليدية، فالجريمة غير محددة بحدود، عصية على تحديدها بمكان او زمان او ارتكابها من نوعية من الأشخاص ولا يتحقق مسرح للجريمة فقد يكون الجاني في بلد والمجنى عليه في بلد آخر، وهي لا تترك أثرا ماديا ملموسا مما يُعقد طرق إثباتها وبالتالي اكتشافها وتتطلب وجود جهاز الكتروني ومعرفة باستخدامه وهي جريمة عقلية يرتكز نشاطها الاهم على مقدرة العقل في التعامل مع التقنيات ووسائل الاتصال كما انها جريمة تتعدد فيها صور الوصف القانوني، وهذه الخصائص تقتضي إيجاد تنظيم قانوني دولي وداخلي لمكافحتها والحد من انتشارها، والحاجة ملحة في العراق الى إيجاد تشريع لمكافحة الجرائم الالكترونية يكون بمستوى التطور الذي وصلت له لكي يكون واقيا ورادعاً ومعالجاً ثم بعد ذلك مؤهلاً للجناة.