القاضي ناصر عمران
الأفكار في أبسط أشكالها منتج العقل الأساس، والعقل جوهر الطبيعة كما انه جوهر التاريخ وجوهر الأشياء كما يعتقد الفيلسوف (هيغل)، والعقل على الدوام هو الساعي لضبط حركة إيقاع المحيط والسيطرة عليه ومن ثم عقلنة الظواهر والأشياء التي تحيط بنا فالتلازم الحقيقي لمنهج المنتج العقلي تفرضه محددات لا يمكن تجاوزها، فالثنائيات عوامل محددة مهمة في المنهج العلمي واتجاهاته سواء أكانت تجريدية قائمة على الفرضيات والتأمل أو تجريبية متصلة اتصالاً وثيقاً بالواقع المادي الملموس، والخلاصة إن ثنائية التاريخ والجغرافية محدد منهجي مهم تتداعى عنده وترتبط به ثنائيات منهجية كالزمان والمكان.
ولأن تاريخ البشرية تاريخان تاريخ للحوادث والوقائع والأشياء وتاريخ للأفكار والجريمة واقعة مادية وعند دراستها لابد من استحضار منهجية معينة تتضمن نظاماً فكرياً يضعه باحث أو عدد من الباحثين ويتكامل في إطار تفسير سببي لعلة الجريمة ومحاولة لتفسير السلوك الإجرامي، ولم تكن البيئة الجغرافية بعيدة عن رؤى وأفكار علماء الإجرام فظهرت المدرسة الجغرافية كأول مدرسة علمية في التسلسل التاريخي لتفسير السلوك الإجرامي وهي سابقة للمدرسة البيولوجية التي أنشأها العالم الايطالي لمبروزا، ويقصد بالبيئة الجغرافية الظواهر الكونية والظروف الطبيعية لحركة الكرة الأرضية، ظهرت هذه النظرية على اثر الرصد الإحصائي الجنائي في فرنسا وبعض الدول الأوربية، ويعتبر العالم البلجيكي (ادولف كيتيليه) والعالمان الفرنسيان (جيري ولا كاساني) من مؤسسي هذه المدرسة والذين بحثوا عن الصلة بين البيئة الجغرافية والسلوك الإجرامي وتأثير عناصر البيئة الجغرافية كالمناخ والتضاريس والموقع في السلوك الاجرامي وانتهت هذه النظرية الأولى إلى نتائج مهمة أهمها إن معدلات الجريمة تتغير بتغير المناخ والذي يعتبر أكثر عناصر البيئة الجغرافية أهمية والذي حظي بدراسة وافية في ضوء الإحصائيات التي أجراها العالم كيتلية وانتهى من خلالها الى وضع معيار اسماه (القانون الحراري للجناح) والذي يرى بان نسبة الجرائم تختلف من منطقة لأخرى باختلاف درجة الحرارة فجرائم العنف تزداد في المناطق والفصول الحارة في حين تزداد جرائم الأموال في المناطق والفصول الباردة، كما أن معدلات الجريمة تختلف باختلاف الموقع الجغرافي كما ان معدلات الجرائم تختلف باختلاف التضاريس والى جانب ذلك فقد توصل العلماء الى نتائج أخرى تربط السلوك الإجرامي بالضوء وطبيعة التربة وتوزيع المياه والموارد الطبيعية وغيرها، وبالرغم من أن هذه النظرية قد عفا عليها الزمن لتنطلق نظريات أخرى إلا أن منهجية البحث العلمي لا يمكن لها تجاوز البيئة الجغرافية للجريمة ليس كنظرية اولى لمحاولة تفسير السلوك الإجرامي فحسب، وإنما لأنها أيضاً الصورة الوجودية لمشهد الجريمة عبر مسرح الجريمة الذي يدخر في أحيان كثيرة حقيقة الجريمة.
إن جغرافية الجريمة وان تُركت للتاريخ كنظرية في تفسير السلوك الإجرامي، الا انها دائما ما تنبثق كمحدد او مؤشر او منهج دلالي يشير الى تفسير وطبيعة السلوك الاجرامي وهذه تتأتى من ان الجغرافية تستأثر في المكان كجدلية مهمة مضافة إلى جدليات أخرى مثل الزمن وهذه بمجمل تمثل الحصيلة المعرفية لماهية وطبيعة الجريمة.