- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لماذا يحذّر السيد السيستاني من خطورة طمس «الهوية الثقافية» للعراقيين؟!
بقلم:حسين فرحان
بعدَ عقدينِ من الزمن، ما يزالُ جوابُ المرجعيةِ العُليا لصحيفةِ (الواشنطن بوست) غضًّا طريًا يتجدَّدُ مع تجدُّدِ الحوادثِ الواقعةِ المليئةِ بالفِتَنِ والمؤامراتِ التي تُريدُ لهذا الشعبِ أنْ يكونَ مُجرّدًا من كُلِّ شيء.
سألتِ الجريدةُ سؤالًا ربما كانتْ تتوقّعُ له إجابةً أخرى غيرَ التي سمعتها..
كانَ السؤال: ما أكبرُ خطرٍ وتهديدٍ لمُستقبلِ العراق؟
فكانتِ الإجابة: خطرُ طمسِ هويّتِه الثقافيةِ التي من أهمِّ ركائزِها هو الدّينُ الإسلامي الحنيف.
كانتِ الإجابةُ بمنزلةِ قراءةٍ واعيةٍ ورؤيةٍ ثاقبةٍ واستشرافٍ لمُستقبلٍ مجهولٍ غامضٍ بنظرِ الكثيرِ من الناس، فلم تكُنِ الساحةُ العراقيةُ قد شهدتْ شيئًا ممّا نراهُ اليومَ من مُستحدثاتِ هذا العالمِ أو حتى من وسائلَ وتقنياتٍ سبقتْ بها الشعوبُ الأخرى هذا البلدَ الذي كانَ رهنَ ديكتاتوريةٍ ارتأتْ قطعَ صِلتِه بهذه الوسائلِ حفظًا لبقائها لا حفاظًا عليه من تأثيرِها.
خطرُ طمسِ الهويّةِ الثقافيةِ كانَ الهاجسَ الأكبرَ الذي أولتْه المرجعيةُ العُليا اهتمامًا بالغًا وهي تنظرُ لعاصفةٍ من الغزوِ الفكري ستتلو الغزوَ العسكري لقوى الاحتلال.
العولمةُ الثالثةُ بحسبِ تصنيفِ (توماس فرايدمان) كانتْ في بدايةِ نشأتها، فمع بدءِ غزوِ العراقِ كانتْ (عولمة الأفراد) قد بلغتْ من العمرِ ثلاثَ سنوات، ولم تكنْ ذاتَ تأثيرٍ يُذكَرُ كما هي عليه اليوم، لكنّ رؤيةَ السيّدِ المرجعِ لمآلاتِ أمرِ هذا المشروع العالمي كانتْ واضحةً بحيث شخّصَ أنَّ الخطرَ المُستقبلي المحدقَ بهذا الشعب هو (خطرُ طمسِ هويّتِه الثقافية).
ولا بُدَّ أنْ يكونَ لهذا المشروع أدواتٌ يداهمُ بها هذا الشعبَ لينقضَّ عليه فيجعله أسيرًا -كما هي كُلُّ الشعوب اليوم- لنظامٍ عالمي بلا ملامح واضحة تنتهي معه حقبُ الأقطابِ المُتعدِّدةِ والثقافاتُ المُتنوّعة وتتلاشى فيه خصوصيةُ الشعوبِ ويروَّجُ فيه لنظامٍ اقتصاديٍ لا يؤمِنُ إلا باستعبادِ الناسِ وجعلِهم آلاتٍ رخيصة، ويُصارُ فيه إلى إلغاءِ مُعتقداتِهم وتهميشِ أديانهم وجعلها مُجرّدَ طقوسٍ خاويةٍ لا تمتلكُ أدنى مُستوياتِ الرّدعِ والمنعِ من ارتكابِ ما يُنافي الخلقَ الإنساني فينأى بهذا النوعِ عن عالمِ الفضيلةِ إلى عالمِ الرذيلة.
قبلَ العامِ 2000 مرّتِ العولمةُ بمرحلتين:
1- العولمةُ الأولى (1492-1800)، وهي عولمةُ الدول
2- العولمةُ الثانية (1800-2000)، وهي عولمةُ الشركات
وقد كانتا بمنزلةِ المُقدِّمةِ الطويلةِ الأمد للعولمةِ الثالثة – مدار البحث- والتي تُشكِّلُ المرحلةَ الأخطر في هذا المشروع؛ كونها تستهدفُ الأفراد.
أحدثتِ العولمةُ بنوعيها الأول والثاني نقلاتٍ نوعيةً في مجالاتِ التجارةِ والصناعة، وتعرّضتْ لانتكاساتٍ بسببِ الحروبِ العالميةِ والأزماتِ الاقتصادية، وقد أسّستْ لنظامٍ عالميٍ من نوعٍ آخر أصبحَ يُقدِّمُ التسهيلاتِ اللازمةَ لتبادُلِ المنفعةِ العالمية، وهو أمرٌ أشادَ به بعضٌ وأنكره آخرون، كُلٌّ بحسبِ ما يراه.
لكنَّ انتقالَ العولمةِ إلى مرحلةِ تشكيلِ الأفرادِ بقالبٍ واحدٍ هو ممّا أثارَ قلقَ العُقلاءِ لما يترتّبُ على ذلك من آثارٍ سيئةٍ ستتخذُ به البشرية -بشكلٍ أو بآخر- عنوانًا واحدًا هو: (اللاهوية)..
وقد تحقّقَ ذلك بشكلٍ واقعي وعملي في كثيرٍ من البلدانِ حيثُ لاحتْ بوادرُ تساقُطِ هويّةِ الفردِ كأوراقِ الشجرِ في الخريف، فأعلنَ بعضٌ انسلاخَهم عنها بذرائعَ وحُجَجٍ ودلائلَ زوّدتهم بها الثقافةُ الدخيلةُ عليهم من نوافذِ العالم الافتراضي، فأوحتْ لهم عُزلتُهم أنّهم الأحرارُ وأنّ طباعَ الأجدادِ قيدٌ ينبغي التخلُّصُ منه في زمنِ التحضُّرِ والتطوّر والعالمِ الأُحادي القطب الذي لا تحكمُه القيود..
ربما يردُ تساؤلٌ مُعيّنٌ عن دورِ البُلدانِ في مواجهةِ هذا المشروع؛ لمعرفةِ مدياتِ الإلمامِ بخطره.. وهل هناك دولٌ أو مُنظماتٌ سعتْ لتحصينِ من يهمُّها أمرُهم للنأي بهم عن هذه المخاطر؟
الجواب: نعم، هناك الكثيرُ من الدولِ واجهتْ ذلك وبإجراءاتٍ صارمة، واستخدمتْ سُلطتَها في منعِ كُلِّ ما من شأنِه المساسَ بهويّةِ شعوبها.. مثال ذلك فرنسا التي تُصِرُّ على أنْ تبقى لُغتُها من اللغاتِ العالمية..
مثالٌ آخر: حرصُ دولٍ كُبرى -كالصينِ وروسيا وكوريا الشمالية- على الاحتفاظِ بالثوابتِ التي تؤمِنُ بها، ومُحاولاتها للبقاءِ كأقطابٍ تُنافِسُ الأقطابَ الأخرى وعدم الانجرارِ لمشروعِ (عولمة الافراد)..
قد يردُ سؤالٌ آخرُ عن إجراءاتِ دولِ العالمِ الثالثِ أو الدولِ النامية والدولِ التي تمرُّ بأزماتٍ سياسيةٍ واقتصادية وهي لا تمتلكُ ما تردُّ به هذه الهجمة؟
الجواب: هناك مُشكلةٌ حقيقيةٌ في التصدّي مع انعدامِ الإمكاناتِ اللازمةِ لتحصينِ أفرادِ المُجتمعِ خصوصًا مع وجودِ منظوماتٍ حاكمةٍ فاسدةٍ أو مُتآمرة.. وقد نتساءلُ أيضًا: هل إنَّ العولمةَ – بنوعها الذي يستهدفُ الأفراد- هي المشروعُ الوحيدُ لطمسِ الهويةِ الثقافيةِ للشعوب؟
لا يُمكِنُ الجزمُ بذلك؛ فالمُتتبعُ للأحداثِ العالميةِ قد يرى مشاريعَ مُتعدِّدةً أخرى لا يشترطُ أنْ تكونَ مُرتبطةً ببعضِها البعض –وإنْ كانَ هدفُها واحدًا- فهي مشاريعُ تخضعُ لإراداتٍ مُختلفةٍ تتبنّاها قوى وجهاتٍ ذات نفوذٍ تسعى جميعُها لاستعبادِ الإنسانِ فلم تجدْ أفضلَ من طريقةِ تجريدِه عن هويّتِه الثقافية..
الحربُ الناعمةُ ضدّ المُقدّسات، وإسقاطُ القدوات، وصناعةُ ثقافةِ جلدِ الذات، وتسخيرُ العالمِ الافتراضي لذلك، خفّفَ عن كاهلِ قِوى الاستكبارِ العالمي عبءَ وأوزارَ الحروبِ العسكريةِ المُباشرة، وفسحَ المجالَ لآلاتِ هدمٍ جديدةٍ بأخذِ دورِها في صناعةِ إنسانٍ من نوعٍ آخر، إنسانٍ خالي الوفاضِ من كُلِّ شيء، لا يملكُ من أدواتِ الوعي ما يُحصِّنُه من الوقوعِ في شِراكِ شياطينِ الإنس..
لذلك كانَ جوابُ المرجعيةِ عن سؤالِ الصحيفةِ الأمريكيةِ نابعًا من قراءةٍ دقيقةٍ للواقعِ وسعةِ أُفُقٍ واطلاعٍ تام، فهي -ومن منطلقِ المسؤوليةِ الشرعيةِ تجاهَ الأُمّةِ- لم تدخرْ جُهدًا في بيانِ خطورةِ هذا الاستهدافِ فانبرتْ في أكثرَ من موقفٍ في خُطَبِها وبياناتِها إلى الإشارةِ الصريحةِ إليه، والتحذير منه بل ووضعِ الحلولِ لمواجهته..
أمّا إمكاناتُ المواجهةِ الحقيقيةِ فهي مسؤوليةُ جهاتٍ عِدّةٍ تشملُ (الأفرادَ والأسرةَ، ومُنظّماتٍ ومؤسساتٍ مُجتمعية، بالإضافةِ لجُهدٍ حكومي مُعتدٍّ به يوفِّرُ الإمكاناتِ اللازمةَ لذلك).
مرجعيتُنا العُليا شخّصتِ الحالة، وبذلتِ النصح.. وما تبقّى هو مسؤوليتُنا جميعًا.