بقلم: د. فلاح اسماعيل حاجم
اثار مفهوم الحصانة وما يزال يثير جدلا واسعا ليس فقط بين الباحثين في مجال القانون الدستوري بشكل عام، والمتخصصين بالشأن البرلماني على وجه الخصوص، بل انه اصبح مثار جلٍ بين السياسيين وجميع المهتمين بشأن الدولة وتوأمها القانون.
ولم يأت هذا الاهتمام بواحد من المفاهيم الملازمة لمسألة الديمقراطية وبناء الدولة بشكل عام من فراغ، انما املته عهود طويلة من الممارسة الديمقراطية، التي تعتبر البرلمانية احد اركانها الرئيسية، فيما تعتبر الحصانة، كما تثبت التجربة العملية، احد الوسائل المهمة لتثبيت اسس تلك الاركان وتدعيمها. من هنا تأتي اهمية الخوض في هذا الموضوع، الذي يكتسب اهمية استثنائية في ظروف بلدنا الراهنة، حيث تبرز، بين اونة واخرى، دعوات لمنح المسؤولين الحكوميين الحصانة الدائمة لحمايتهم من الملاحقة القانونية، التي باتت مطلبا جماهيرياً، وهي نتيجة منطقية لحالة الخراب الشامل الذي تعاني منه الدولة والذي بات يهدد وجودها، جراء السياسات الخاطئة وحجم الفساد الهائل، الذي لا يختلف اثنان على شموله كافة مفاصل الدولة.
لم يتفق فقهاء القانون على تعريف موحد لمفهومي الحصانة واللامسؤولية*، ربما بسبب تفاوت واختلاف ظهور هذين المفهومين من الناحية الزمنية. وبقدر ارتباط هذين المفهومين بقوانين دول معينة، يختلف ايضا نطاق سريان الحصانة الممنوحة لنواب الشعب من دولة إلى أخرى، وقد تتغير بمرور الوقت تبعا لتغير الظروف الاجتماعية، التي ستؤدي بالضرورة الى احداث تغييرات في البنية السياسية، التي سيكون من نتائجها المنطقية تغيرات تطال البنية القانونية للدولة. على انه ثمة اجماع على ان أول ظهور لمفهوم وتطبيق الحصانة و (اللامسؤولية) كان في بريطانيا العظمى نتيجة لتأصل التقاليد البرلمانية وتطبيقاتها الطويلة. وفي فرنسا تم إدخال الحصانة البرلمانية واللامسؤولية كحصانة مباشرة من تصرفات السلطات التنفيذية والقضائية في الممارسة القانونية خلال الثورة الفرنسية.
على انه لابد من التنويه الى الرابطة الوثيقة بين مفهوم الحصانة البرلمانية (Parliamentary immunity) و ما بات يطلق عليه مفهوم اللامسؤولية البرلمانية (indemnity)، الذي يعني أن العضو في الهيئة التمثيلية أو التشريعية لا ينبغي أن يكون مسؤولاً عن أفعاله وتصريحاته، بمعنى ان ممثل الشعب يمتلك حرية التعبير عن الرأي علنا حول مختلف القضايا التي تطرح للمناقشة تحت قبة البرلمان، شريطة أن لا تتجاوز تلك التصريحات الحدود المرسومة في التشريعات المنظمة لعمل البرلمان، بما في ذلك تشريعه الخاص بتنظيم الحياة الداخلية لهذا الجهاز (النظام الداخي) وفي كثير من الأحيان يتم الجمع بين مفهومي الحصانة البرلمانية واللامسؤولية البرلمانية، التي يتضمن شقها الثاني ايضا حجم الامتيازات التي يتمتع بها عضو الجهاز التمثيلي مقابل عمله في البرلمان ومع ناخبيه.
ولم تصبح الحصانة البرلمانية واللامسؤولية آلية عالمية شاملة ومقبولة بشكل عام لحماية النواب، فهي حصانة محدودة (ليست مطلقة) في عدد من الدول الاسكندنافية، حيث لا يتمتع النواب بالحماية من المسؤولية عن تصريحاتهم. أما في النمسا والهند وعدد من الدول الأخرى، فيُحرم النواب من الحماية اذا ما تعلق الأمر بالملاحقة الجنائية.
والحصانة البرلمانية، المعروفة أيضا بعنوان الحصانة النيابية أو الحصانة التمثيلية، هي نص تشريعي يمنح بموجبه أعضاء البرلمان أو أي هيئة تمثيلية أو تشريعية أخرى حصانة جزئية من الملاحقة القضائية و / أو الجنائية، وكذلك الاعتقال والاحتجاز والتفتيش وأي شيء آخر يتعلق بالتدابير القسرية التي يمكن تطبيقها على المواطنين العاديين أو الخاضعين للسلطة التنفيذية. وهنا تجدر الاشارة الى انه قبل فتح قضية جنائية أو اتخاذ إجراءات مماثلة أخرى، ينبغي اتخاذ قرار من قبل السلطة التي يعمل فيها النائب، أو المسؤول الذي يتمتع بالحصانة، برفع الحصانة عن المسؤول المعني كقاعدة عامة، ويحدث هذا إما بعد استئناف سلطات التحقيق أمام البرلمان نفسه أو من خلال أعلى هيئة قضائية، باستثناء الحالات التي يضبط فيها الشخص المعني متلبساً في مسرح الجريمة، اذ تعتبر الحصانة لاغية.
ان واحدا من أهم اهداف الحصانة هو التقليل من احتمالية الضغط على النائب لتغيير تصويته خوفاً من تعسف السلطة التنفيذية أو أو اي من المكونات المجتمعية الأخرى (افرادا وجماعات) له، اذ تبدو هذه المشكلة في البلدان حديثة العهد بالديمقراطية، او تلك التي تبدو فيها الدولة ضعيفة وعاجزة عن بسط سيطرتها، الأمر الذي يجعل من بدائلها (بدائل الدولة) ممثلة بالعشيرة والمافيا ومجاميع الجريمة المنظمة والمليشيا غير الرسمية …..الخ، اكثر قوة واكثر تحكماً بامور المجتمع، وهو الأمر الذي نشهد تجلياته بوضوح تام في الحالة العراقية الراهنة.
تقليديا، وعلى العموم فان الحصانة البرلمانية تعتبر واحدة من الإنجازات الهامة للديمقراطية. لكن في الوقت ذاته، انتقد ممثلو عدد من القوى السياسية في دول مختلفة الحصانة البرلمانية، معتبرين أنها تساهم في الفساد والتجاوزات من قبل النواب. وربما كانت التجربة البرلمانية العراقية خير دليل على ذلك، حيث الاعتراف بعقد الصفقات المشبوهة بين نواب في البرلمان والشركات المحلية والاجنبية، بالاضافة الى تلقي عملات مقابل تقديم خدمات من قبيل التوظيف في اجهزة الدولة والمتاجرة بالمناصب الحكومية، بما ذلك عضوية ارفع السلطات التشريعية والتنفيذية، هذا الاعتراف بات يتردد علنا على لسان نواب ومسؤولين دون رادعٍ او خشيةٍ من الملاحقة القانونية.
ونحن بصدد الحديث عن مفهوم الحصانة لابد من الاشارة الى انه هنالك نوع آخر لها، خاص بالعلاقات الدبلوماسية وتتضمنه قواعد القانون الدولي، حيث يمنح موظفو السفارات وممثليات المنظمات الدولية والانسانية المعتمدة لدى الدول حصانة من الملاحقة القانونية، تشمل الدبلوماسيين ذاتهم وتمتد الى عوائلهم واماكن اقامتهم، وحتى امتعتهم ووسائل نقلهم. وما يحد من هذه الحصانة هو القبض على المشمولين بهذا النوع من الحصانة هو القبض عليهم متلبسين بالجرم المشهود ومزاولتهم لانشطة تتنافى مع مهمتهم الدبلوماسية ومخالفة لتشريعات الدولة المعتمدين لديها.
ويمكننا القول أن الحصانة تعتبر سلاح ذو حدين، ذلك انها يمكن ان توفر اجواءً مناسبةً لتنفيذ المسؤوليات الملقاة على عاتق ممثلي الشعب والمسؤولين الآخرين، وتشكل سياجاً امام تعسف السلطة التنفيذية، وتوفر لهم الحماية من تجاوز التشكيلات الخارجة عن القانون، لكنها (الحصانة)، يمكن أن تصبح هي الاخرى غطاءً للقيام بخرق القانون وممارسة الجريمة المنظمة والفساد بمختلف تجلياته.