- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أزمة المياه في العراق تحتاج إلى القرار السياسي
بقلم: فاطمة جهاد
يقوم محمد، “مستثمر عراقي في انتاج وتسويق الرز العنبر العراقي”، بشراء الشلب (المادة الأولية للرز) ومن ثم جرشه وإنتاج الرز الذي تتميز منطقة الفرات الاوسط العراق بزراعته تاريخياً. يحصل محمد على الشلب بشكل مباشر من الفلاحين والمزارعين في منطقتي الشامية والمشخاب في الديوانية والنجف.
وقد أدت ارتفاع اسعار الرز البسمتي والأنواع الأخرى المستوردة، الى توجه المستثمرين للترويج للمنتج العراقي الرز العنبر بالأخص، فزاد التوجه للمنتج المحلي وارتفعت أسعاره بمقدار يقارب 20% عن الفترة السابقة، حيث ارتفع الطلب عليه محلياً الأمر الذي عوض المزارعين عن الأضرار التي لحقت بهم من خسائر المواسم الزراعية الجافة.
ولكن تغير المشهد الزراعي كما يروي المستثمر المحلي، هناك تخوف كبير من عدم استطاعة المزارعين زراعة الأرض السنة القادمة، وذلك جراء قرارات الحكومة العراقية بتقليل الحصص المائية ورفع الدعم المتمثل بتقديم الأسمدة والمخصبات التي تزود بها الحكومة المزارعين. ويرى محمد أن الوقت الأنسب لدعم الزراعة وانعاشها من قبل الحكومة هو الآن، ذلك أن الاعتماد على المنتج المستورد “يتأثر بأي طارئ” كما يقول، بينما يظل المنتج المحلي باقياً، إنما هناك طارئ آخر أثر على حياة السكان المحليين في جنوب العراق أكثر من جميع الطوارئ الأخرى؛ الماء وندرته الذي قد يفقد البلد تميزه برز العنبر.
يجدر بالذكر أن قرار تقليص زراعة الأرز لا يتعلق بالظروف الآنية للمناخ، بل إن عملية التقليص بدأت منذ 2008 حين شهدت البلاد موجة جفاف قاسية، إنما يعود المزارعون الى حقولهم مع كل موسم يتميز بالتساقط المطري العادي. وأوضح وكيل وزير الزراعة مهدي القيسي في إشارات صحفية بأن السبب آنذاك، كان بسبب التجاوزات على الحصص المائية من قبل الفلاحين، وتقلصت مساحات زراعة الأرز تدريجياً مع السنوات. ولكن ما يحدث الآن يعود إلى تأثر مناطق الوسط والجنوب في البلاد بشحة المياه، ما أدى تناقص مساحات زراعة القمح والأرز وهلاك النخيل والفسائل والثروة السمكية، ناهيك بتأثر تربية الجواميس وصناعة بيوت القصب في الأهوار العراقية.
يشير فقدان زراعة الأرز في جنوب العراق أو بوادر فقدانه، إلى أن ملامح مناخ البلاد الجديدة، بدأت تتضح أكثر فأكثر. وقد أشارت بيانات رسمية إلى ان البلاد تمر بأزمة مائية كبيرة، سوف تلقي بظلالها على كافة نواحي الحياة. وبحسب معلومات ذكرتها رئاسة جمهورية العراق في إحاطة كوب 26 في غلاسكو أن 54% من اراضي العراق تتعرض للتدهور، ويؤثر التصحر على 39% من مساحة البلاد. وقد تضرر أكثر من 7 ملايين عراقي من الجفاف والتغير المناخي والنزوح الاضطراري. وتعود أسباب كل ذلك، إضافة الى آثار تغير المناخ، إلى بناء سدود ومشاريع عملاقة على منابع وروافد نهري دجلة والفرات من قبل تركيا وإيران، مما أدى إلى تقليل كمية ونوعية المياه التي تصل الى العراق. ونتيجة لذلك، فإن اللسان الملحي من مياه الخليج يدخل إلى الجزء الجنوبي من البلاد، مما يؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي ويتسبب في معاناة كبيرة لسكان الجنوب، تحديداً مدينة البصرة التي تعاني من نقص مياه الشرب. وتعود أسباب أخرى للأزمة المائية العراقية، الى الاستخدام غير المستدام للموارد الطبيعية.
يضاف الى ذلك تقادم البنى التحتية والمشكلات المتراكمة في البلد جراء الحروب المتتالية والتحديات السياسية والأمنية والظروف العصيبة التي واجهت، ولا زالت تواجه بلاد ما بين النهرين، مما أدت الى استفحال المشكلات الناتجة عن تغير المناخ، والتي لم تأخذ الأولوية في رسم السياسات وسبل التقليل من الأضرار الاقتصادية والصحية والزراعية.
يذكر ان العراق يعد من بين البلدان الخمس الأكثر تأثراً بتغير المناخ وآثاره في العالم، وذلك بسبب مناخه المتوزع بين المتوسطي شمالاً، والمناخ شبه الاستوائي جنوباً من جانب آخر. وتشير دراسة جديدة إلى أن مناخ المناطق شبه الاستوائية الجافة تصبح أكثر جفافاً جراء تغير المناخ وتغيرت في دورة المياه. وتتمثل الآثار الناتجة عن تغير المناخ في العراق بشحة المياه، التصحر، ارتفاع بدرجات الحرارة، التدهور البيئي وفقدان التنوع الأحيائي. كل ذلك بسبب التناقص في تساقطات المطر والثلوج، وزيادة ملحوظة في العواصف الترابية، وانخفاض نسب المياه الجوفية.. الخ من الظواهر المناخية. ونتج عن ذلك تغيير ديمغرافي وهجرة مناخية تمثلت بترك المزارعين أراضيهم وتوقف مربي الماشية عن أعمالهم والتوجه الى المدن للعيش بها. ويعد انعدام البيئات المناسبة للزراعة وتربية المواشي جراء اختلال التوازن البيئي وفقدان عدد كبير من التنوع الاحيائي البري والمائي، سمة بارزة من سمات التدهور البيئي في البلاد.
تعمل تركيا منذ سبعينات القرن الماضي ولغاية يومنا على مشاريع سدود عملاقة على نهري دجلة والفرات وبلغ عددها 579سدا، ومن أبرزها سد اليسو على نهر دجلة وهو الشريان الرئيسي لتغذية العراق. واستكمل العمل في هذا المشروع مطلع 2018، علاوة على سدود أخرى ضمن مشروع أناضول الكبير GAP على نهر الفرات والتي بلغ عددها 22 سد في هذا المشروع.
هدف مشاريع السدود التركية المعلن عنها، هو توفير المساحات المائية من أجل توليد الطاقة والكهرباء، إنما على حساب حقوق العراق وسوريا المائية حيث يعاني البلدان من نقص شديد في حصتهما المائية جراء تلك السدود. وتمارس إيران من جهة أخرى سياسة مائية مشابهة عبر مشروع( TWP المتكون من 14 سد) والذي يهدف الى تطوير القطاع الزراعي من خلال بناء السدود على أنهر الكرخا، كارون، سيروان والزاب الصغير دون التشاور مع العراق. ولا تقتصر سياسة إيران المائية بحبس المياه فحسب، بل تقوم بتغيير مسارات الجداول المائية الطبيعية وحرفها عن المرور بالعراق، وذلك عبر ممرات جوفية اصطناعية تنقل المياه من خلالها الى مناطق أخرى في إيران من أجل الري والزراعة والصناعة، تاركةً العراق في أسفل المنابع للتصحر!
وكما تمت الإشارة في سياق هذا المقال، هناك أسباب أخرى تتعلق بإدارة الموارد المائية في العراق، والاستغلال غير المستدام لها، ناهيك بسطوة الجارتين على سياسات العراق الداخلية، الأمر الذي يُغيّب سبل التنسيق والتفاهمات والوصول الى اتفاقية اقليمية بخصوص حقوق العراق المائية كبلد المصب لغالبية الأنهر.
السياسات الداخلية
في ظل تدفق النفط، يتناسى الساسة أزمة شحة المياه، وسوف تترك السياسة النفطية آثاراً طويلة الأمد على الموارد الطبيعية المستدامة، من بينها المياه بالدرجة الرئيسية. ليس هذا فحسب بل إن إنتاج كل برميل من النفط يحتاج الى 3 إلى 5 براميل من الماء. ولا زال البلد بعيداً عن دراسة هذا الهدر المائي. ويضاف الى ذلك بطبيعة الحال، الهدر والتبذير الكبيرين في استخدام المياه بسبب تقادم البنى التحتية في البلد من جانب والأسلوب القديم في الري حيث يسود الى اليوم الري بالغمر وهو أسلوب سومري قديم لا يناسب حجم الندرة المائية من جانب آخر. ويمكن التطرق في ذات السياق انعدام سياسات عامة فيما يخص الماء والوعي المجتمعي، للحد من الممارسات الخاطئة في استخدام المياه يومياً للفرد. ففي 2021 تم تقليل حصة الفرد الى 250 لتر يومياً بحسب تصريح لوزير الموارد المائية في اب 2021، بعدما كانت تتجاوز 397 لتر. وأكدت وزارة الموارد المائية العراقية، على أن البلاد ستواجه عجزًا قد يصل إلى 10.8 مليار متر مكعب من المياه سنويًا بحلول عام 2035. هذه الكمية من العجز هي من بين ما يحتاجه العراق للزراعة وإنتاج الغذاء. ومن المتوقع ان يواجه العراق تصحر تام بحلول عام 2050 إذا استمر التعامل مع الأزمة بمعايير السياسات الحالية، وبقي النفط مهيمناً على الاقتصاد والسياسات التخطيطية.
وفق مؤشر الإجهاد المائي تبلغ درجة الإجهاد المائي في العراق 3.7 من 5، ليندرج بذلك ضمن قائمة الدول المُصنفة بأن لديها “خطورة عالية” فيما يتعلق بالشح المائي ومخاطره. يحدث كل ذلك، فيما لم تتبلور بعد سياسة مائية واضحة من شأنها وضع خطط مستقبلية ورسم صورة مستقبل البلاد ودرء عطش قادم لا محال.
تأثر الاقتصاد بندرة المياه
يعاني العراق من غموض وضبابية فيما يخص قطاع المعلومات والاحصائيات المرتبطة بمدى تأثير المياه على القطاع الاقتصادي أو العكس، هذا بالرغم من ارتباط المياه ارتباطاً وثيقاً بالعوامل الاقتصادية التي تتأثر بالري الزراعي وتوليد الطاقة الكهرومائية واستخدام المياه في المنازل.
ويتأثر الأمن الغذائي بالماء بنسبة 70%، كري الأنهار المتأخر او المتوقف بشكل تام، والاستخفاف بتحديد تعريفة مائية تتناسب وحجم الصعوبة في توفير الماء لكافة أفراد المجتمع واحتياجاته، وصيانة شبكات المياه! حيث ان أكبر التحديات بوجه الاقتصاد وتأثيره على المياه هو التذبذب الحاصل بكميات المياه الواردة الذي يحول دون تخطيط كامل لاستثمارها بالشكل الأمثل، والهدر الكبير بسبب البنى التحتية والهدر المالي الذي تسببه، والنمو السكاني المتزايد بصورة غير منتظمة التي تجعل من الصعب التكهن بالحصص المائية المستقبلية.
في ظل هذه اللوحة المناخية، هل يعود المزارعون الى حقول الأرز، أو يتركون أراضيهم ويتوجهون الى المدن بحثاً مصادر أخرى لحياتهم وحياة عوائلهم وأسرهم؟ انه سؤال لم يشغل صناعة السياسة العراقية الاّ في هذه الأعوام الأخيرة حيث بدأ الجفاف سمة بارزة من سمات البلد المناخية؛ خاصة بعد الاكتظاظ السكاني في المدن هرباً من البطالة وانعدام البنى التحتية في الأرياف والأهوار.
هناك ورقة مستقبلية طرحتها رئاسة الجمهورية عام 2021 بعنوان (أحياء بلاد الرافدين) لمواجهة تغير المناخ، كما هناك ورقة حكومية بعنوان (الورقة الخضراء) للتوجه نحو اقتصاد أخضر مستدام في مجالات الطاقات المتجددة، وحماية التنوع الأحيائي والحلول المستندة إلى الطبيعة، وخفض الانبعاثات الكربونية بمقدار 1 إلى 2% بجهود وطنية، و13 إلى 15% بدعم المجتمع الدولي، كما جاء وثيقة (الورقة الخضراء). وللمستثمر في الأرز العراقي محمد رأي آخر، قائلاً: “ربما لا تكون هذه القرارات هي الحل الأمثل، وذلك بسبب بعدها عن الواقع قليلاً، من المهم جداً أن تكون الدراسات نابعة من أرض الواقع العراقي، نحن نحتاج الى حلول قابلة للتطبيق ورصد ميزانيات لها، ومتابعة حقيقية من قبل اصحاب الاختصاص بالإضافة إلى مرونة المنفذين للحيلولة بقاء المشاريع حبراً على الورق».
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي