- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة؟
بقلم: حسن الجنابي - الجزء السادس
كان صدام حسين يعتقد ويسوّق نفسه على أنه قائد قومي عربي وإقليمي ودولي، على الأقل على مستوى العالم الثالث، فضلاً عن كونه قائداً وطنياً بدون منازع، بعد ان سحق منافسيه المحتملين من جميع الأطراف وخصوصاً من البعثيين.
في الوقت الذي رسّخ فيه سلطته وقيادته عن طريق سحق منافسيه المحتملين داخلياً، فقد سعى الى “ترتيبات” إقليمية لا تخلو من المغامرة، سواءً مع الجارة الشمالية تركيا بخصوص حزب العمال الكردستاني، او بخصوص تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي وغير ذلك، أو مع الجارة الشرقية إيران بخصوص تخطيط الحدود والحركة الكردية المسلحة وغيرها.
كان يستخدم تلك الترتيبات الإقليمية لتصفية حسابات داخلية أولاً، قوامها القمع والسيطرة المطلقة كما حصل في تصفية الحركة المسلحة الكردية، وفي تهجير المواطنين من ذوي التبعية الإيرانية وقمع اليسار، مؤجلاً التعاطي الحتمي مع مخرجاتها الإقليمية والإلتزامات الناتجة عن تلك الترتيبات، سواءً منافعها إن كان ثمة منافع، أو مضارّها على المدى الأبعد. وهذا ما دفع ثمنه العراق لاحقاً على شكل حروب مع الجوار، والحرب مع إيران واحتلال الكويت مثالان صارخان، أو على شكل انتهاكات للسيادة العراقية بقصد ملاحقة فلول حزب العمال الكردستاني وغير ذلك. وكان فشله في معالجة آثار اندفاعاته المغامرة فضائحياً وكارثياً ووبالاً على العراق والمنطقة، وقد أوقع العراق تحت الإحتلال الكامل وجعل منه الحلقة الأضعف إقليمياً.
على سبيل المثال، وفق السياقات الإيديولوجية البعثية والشعارات الثورية وإنحياز البعث العراقي الى “المعسكر الشرقي” في ذروة الحرب الباردة وغير ذلك من مؤشرات، فقد كان يفترض ان يكون نظام البعث أكثر عداءً لتركيا منه الى إيران، باعتبارها عضوا في حلف شمال الأطلسي الذي يضمر له البعث كل العداء. ولكن “الهيمنة” الإيرانية الشاهنشاهية على الخليج وممارسة دور ما سُمي حينها بـ “شرطي الخليج” كان يدور في الفضاء الأقرب لأحلام الزعامة القومية لدى صدام حسين، أي الخليج العربي. أما الدور التركي فمهما كان نشطاً فهو برأي صدام حسين أقل خطراً، إذ كان يجري في ساحة أبعد عن “أحلام” الايديولوجية البعثية، فضلاً عما يعتقد أنه إعتبارات طائفية، وهي وإن كانت مضمرة ومسكوت عنها إلا أن الإعلان عنها كان يتجسد عملياً في تهجير مئات الآلاف من العراقيين من أصول كردية فيلية وفي القمع المكثف ضد طقوسٍ دينية بعينها.
بعد سقوط نظام الشاه في عام 1979 وانتقال إيران بكل ثقلها الى المعسكر المعادي للغرب وإسرائيل، ورفعها العلم الفلسطيني في مقر السفارة الاسرائيلية وما مثّله ذلك من رمزية ونصر سياسي ودبلوماسي، فضلاً عن كونه انتصاراً وجدانياً وأخلاقياً غير مسبوق للقضية الفلسطينية، ناصب صدام حسين الثورة الإيرانية العداء، بالضد من المنطلقات الفكرية والثوابت الإيديولوجية للبعث الذي يعتبر القضية الفلسطينية قضية مركزية.
كذلك قادته مواقفه المتناقضة والمغامرة الى إتفاق عام 1975 مع شاه إيران تنازل وفقه عن السيادة على نصف شط العرب، الممر المائي والمنفذ الوحيد للعراق الى الخليح، مقابل فرض سيطرته على إشخاص عراقيين معارضين لهم مطالب سياسية قابلة للتحقق، وكان بإمكانه الإتفاق معهم دون الإخلال بالسيادة.
ولاحقاً، انسجاماً مع عقليته المغامرة والشرسة، ألغى صدام حسين اتفاقية 1975 من طرف واحد، وأعلن الحرب على إيران في أيلول عام 1980. تسببت الحرب بمقتل مئات الآلاف من المواطنين، وتدمير البلدين دون ان يستردّ متراً واحد من سيادة العراق التي تنازل عنها بتوقيعه الشخصي. بل أنه استجاب في الفقرة الأولى من رسالته الأخيرة التي خاطب بها الرئيس الإيراني رفسنجاني بتاريخ 15 آب 1990 “بالموافقة على مقترحكم... بإعتماد اتفاقية 1975”، واختتمها بالقول:”أيها الأخ الرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني، في قرارنا هذا أصبح كل شيء واضحاً، وبذلك تحقق كل ما أردتموه، وما كنتم تركزون عليه....والله أكبر، والحمد لله».
وقّع صدام حسين تلك الرسالة بعد مرور أيام على غزو الكويت، ويُحتمل ان يكون موقفه هذا خنوعاً وخوفاً من مآلات الغزو، أو اعتقاداً منه بأنه قادر على خداع الإيرانيين وتحييدهم الى ان يحين وقت آخر لينقلب عليهم كما فعلها في مرات سابقة. وقد يكون الإحتمال الأول هو الأقرب للصواب بدليل قيامه بإرسال الطائرات العسكرية العراقية التي كانت تقصف ايران أثناء الحرب لتأمينها لديهم من التدمير المؤكد على أيدي الأمريكان.
الأيرانيون احتفظوا من جانبهم بتلك الطائرات والمعدات وسُلّمت بعد ذاك في عام 2014 الى العراق أثناء هجوم داعش. قبض الإيرانيون بالمقابل تعويضات مالية غير معروفة اثناء لحظة الكتابة هذه، ولكن مهما كان الوضع فقد قام الإيرانيون بعمل يشكرون عليه في إرجاع تلك “الأمانة” في الوقت الحرج. كان ذلك بتاريخ 2 تموز 2014، و قد أنجزت مهمة نقل الطائرات الى بغداد بقيادة الفريق الطيار فلاح فارس حسن، نائب قائد القوة الجوية العراقية والمحال الى التقاعد مؤخراً.
كانت الدبلوماسية العراقية وبعثاتها في الخارج، الملحقة عملياً بجهاز المخابرات، في أوج نشاطها على أصعدة عقد الصفقات وتوريد الأسلحة وكسب الأصدقاء والمؤيدين، مقابل عزلة خانقة للطرف الإيراني.
توسع النشاط الدبلوماسي العراقي حينها في مجال العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف الى آفاق غير مسبوقة. فقد كان للعراق دور فاعل في المنظمات الإقليمية والدولية استخدمت في حشد الرأي العام والتغلغل المؤثر في قراراتها وأنشطتها، ولعب دوراً رئيسياً في إطار جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة عدم الإنحياز وغيرها. وقد نجح العراق الى درجة ملموسة في شغل بعض من النفوذ المصري، الذي تراجع إثر زيارة الرئيس أنور السادات الى اسرائيل، وعقدت أول قمة عربية بعد ذلك في بغداد في تشرين الثاني 1978.
بذل صدام حسن جهداً كبيراً في تسويق نفسه على مستوى العالم الثالث أيضاً. فقد كان متماهياً مع فكرة قيادته للعرب وللدول النامية على شاكلة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الكوبي فيدل كاسترو، وكان واضحاً انه يعدّ نفسه لذلك الدور. فقد فتح الجامعات العراقية للطلبة العرب والأجانب، وكان المقيمون العرب يحصلون على الجنسية العراقية بعد إقامة ثلاثة أشهر فقط في العراق. بل وشجع زواج العراقيات من الرعايا العرب، وتطور الموقف لديه بتشجيع تعدد الزيجات اثناء الحرب مع ايران بسبب الخسائر البشرية الهائلة للحرب.
على صعيد العالم الثالث قدم العراق مساعدات مادية كبيرة الى الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية. كما دخل الساحة الأمريكية اللاتينية من بوابة كوبا، ونسج علاقات مميزة مع فيدل كاسترو من فترة نيابته، أي قبل تسلمه لرئاسة الجمهورية. وبعد حوالي الشهرين من تسلمه الرئاسة، بعد إقالة رئيسه الذي بات ضعيفا آنذاك أحمد حسن البكر، زار كوبا لحضور مؤتمر قمة عدم الإنحياز في هافانا.
إستقبله فيدل كاسترو بحفاوة بالغة، ويومها كانت ملاحقة الشيوعيين في العراق في أوجها مما أكسب صدّاماً عباءةً ثورية عالمثالثية كان يجسدها فيدل كاسترو بدون شك. إنتزع العراق في هافانا قراراً بعقد القمة اللاحقة لحركة عدم الإنحياز في بغداد وكان ذلك نجاحاً دبلوماسياً باهراً.
إعتَقَد صدام حينذاك ان طريقه لتصدر السياسة العالمية أصبح سالكاً. فقد تخلص ممن كان يعتقده عائقاً او حاجزاً أمام تلك الزعامة العربية-العالمثالثية وهو الرئيس الجزائري هواري بومدين، الذي توفي في 27/12/1978. كان الراحل بومدين ذا شخصية قوية وحضور دولي على المستويات العربية والأفريقية والدولية، وهناك أخبار متداولة تتهم صدام حسين بشأن مرض الرئيس بومدين الغامض الذي ظهرت أعراضه مباشرة بعد زيارته الى العراق، ومن ثم وفاته إثرها، وهي أخبار لم تؤكدها الجهات الرسمية الجزائرية، برغم ما أشيع من ان الرئيس الشاذلي بن جديد واجه صدام حسين حينذاك بالموضوع.
يتبع ..
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير