- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
انتصار الأمام موسى الكاظم(عليه السلام)
حجم النص
بقلم: عبود مزهر الكرخي في قعر السجون وفي الغرفة المظلمة التي لا يدخلها شعاع الشمس ولا حتى الضوء كان يقبع في تلك الطامورة شخصية عظيمة حيرت الأقلام بالإحاطة بمقدار صبر هذا الإنسان وعبادته التي فاقت منزلة الأنبياء والمرسلين فكان يدعو الله في ليله ونهاره وكان يوصي شيعته بالعبادة والتقوى وهو في ظلمات سجون الدكتاتور هارون العباسي فيحدث ولده فيقول { يا بني إياك أن يراك الله في معصية نهاك عنها، وإياك أن يفقدك الله عند طاعة أمرك بها، وعليك بالجد، ولا تخرجن نفسك من التقصير في عبادة الله وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته، وإياك والمزاح فإنه يذهب بنور إيمانك، ويستخف بمرؤتك، وإياك والضجر والكسل، فإنهما يمنعان حظك من الدنيا والآخرة}.فكانت وصاياه وأحاديثه تمثل قمة البناء الصحيح للمجتمع الإنساني القويم ليقول لبعض شيعته: {أي فلان إتق الله وقل الحق وإن كان فيه هلاكك فإن فيه نجاتك، أي فلان إتق الله ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك، فان فيه هلاكك}. من وصاياه في بناء الشخصية الإسلامية الصحيحة الشيء الجميل والمثير في كيفية خلق المسلم الصحيح وتعامله مع الدنيا والآخرة فيقول: {اجعلوا لأنفسكم حظاً من الدنيا باعطائها ما تشتهي من الحلال، ومالا يثلم المرؤة وما لا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين، فإنه روي: ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه. تفقهوا في الدين، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العباد، كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا}.(1) الإمام موسى بن جعفر (ع) تجمعت فيه العبادة والزهد والكرم والسخاء وقضاء الحوائج للناس ,وكانت قدراته لاتحصى منها حلمه وعلمه وكظمه الغيظ. و أنه كان يصلى نوافل الليل و يصلها بصلاة الصبح، ثم يعقب حتى تطلع الشمس، و يخر لله ساجدا فلا يرفع رأسه من الدعاء والتمجيد حتى يقرب زوال الشمس. ومن دعائه اللهم إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب. و كان يبكى من خشيه الله حتى تخضل لحيته بالدموع. و كان أوصل الناس لأهله و رحمه، و كان يفتقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم فيه العين, والورق, والتمور، فيوصل إليهم ذلك، و لا يعلمون من أي جهة هو. فكان العابد والناسك القريب لله سبحانه وتعالى والتي بعبادته وزهده وتقواه رفعه رب السماوات إلى منزلة عظيمة وكريمه أختصه الله جل وعلا عن باقي وسائر عباده وأولياءه الصالحين. عايش الإمام موسى الكاظم (ع) أربع خلفاء عباسيين استخدموا كلهم العنف الهمجي ضده. حتى أن المدرسة التي كان يعلم بها والده (ع) لم يكن من الممكن الاحتفاظ بها من شدة جور حكام بني العباس. وكان الحكم العباسي يمارس اشد أساليب القمع والاضطهاد والسجون والقتل ضد الشيعة والعلويين من آل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي الممارسة التي بلغت إحدى ذروتها الأكثر عنفاً في عهد هارون العباسي.(2) وكانت الطريقة المثلى لنشر الرسالة المحمدية وتعاليمه المثالية تكون بحضور الكمال الأخلاقي ومعايشة الناس الكاملة ومن خلال هذا الحضور الأخلاقي وكانت أحاديثه وتوجيهاته يتلاقفها الناس والشيعة بالخصوص بكل لهفة وعشق كلهفة العطشان للارتواء من الماء فكانت هذه الشخصية العظيمة والعابدة الزاهدة في ظل حكم همجي يستخدم أقسى الطرق إجرامية في تصفية خصومه حتى أن الهادي وبعد واقعة فخ التي ثار بها الحسين بن علي حفيد الأمام الحسن(ع) ضد حكم الحاكم العباسي موسى الهادي أطلق تهديداته بقتله بقوله (والله ما خرج حسين إلا عن أمره ولا أتبع إلا محبته لأنه صاحب الوصية في أهل البيت قتلني الله أن أبقيت عليه.(3) و لعل لقب الكاظم إن دل على شيء فإنما يدل على ما كان يعانيه الإمام الكاظم (ع) من ظلم و اضطهاد حتى أن أتباعه كانوا يلقبونه بألقاب عدة لشدة السرية التي كانوا يعملون بها لحفظ أرواحهم من بطش هارون و جلاوزته. و قد قضى الإمام الكاظم (ع) فترة طويلة في سجون بني العباس تصل حسب بعض الروايات إلى خمسة عشرة سنة في فترات متقطعة كان آخرها سجنه في عهد هارون الذي استمر أربع سنوات في غياهب السجون. كان الإمام الكاظم (ع) يتصل بشيعته وأهل دعوته من السجون التي يتناقل فيها، ويأمرهم بأمره، كما أنه كان يجيب عن مسائلهم السياسية، والفقهية عبر قنواته السرية وحتى بعد أن سُجن الكاظم في عهد هارون العباسي، فإنه لم ينقطع عن العمل العلمي فكانت الأسئلة تأتيه إلى السجن ويجيب عليها بصورة تحريرية.(4) وخصوصاً تلك المسائل الفقهية حول الحلال والحرام، ولذا يرى بعض الباحثين أن الإمام موسى بن جعفر هو الرائد الأول في كتابة الفقه، يقول محمد يوسف موسى: «ونستطيع أن نذكر أن أول من كتب في الفقه هو الإمام موسى الكاظم الذي مات سجيناً عام 183 هـ، وكان ما كتبه إجابة عن مسائل وجّهت إليه تحت اسم (الحلال والحرام).»(5) فكانت المدرسة الكاظمية العلمية مدرسة حملت أعباء الرسالة المحمدية بكل شرف وأمانه وكانت الفترة التي عاشها في أواخر حياة والده الصادق وبعد وفاته هي فترة علمية حساسة جداً في تاريخ المسلمين حيث سيطرت فيها الفلسفة اليونانية على الفكر العام، وكثرت فيها الاتجاهات الفكرية وتنوّعت، وامتد ذلك إلى صلب العقيدة والدين، فمن حركات تدعو إلى الإلحاد ومن حركات فلسفية تشكك في بعض العقائد الدينية، فكان على الكاظم أن يتحمل مسؤوليته من الناحية العلمية.فواصل منهج أبيه الصادق في رئاسة المدرسة التي أسسها هو وأبوه والباقر. وكانت مدرسته في داره في المدينة وفي المسجد كما كان آباؤه، فحضرها كثير من أعلام المسلمين، وتخرج من هذه المدرسة نخبة من الفقهاء ورواة الحديث، قدّر عددهم بـ(319) عالماً وفقيهاً.(6) وكان أقبح أعمال هارون العباسي و أشهرها هي: 1- نبش قبر الإمام الحسين (ع)، و منع زيارته. 2- سجن الإمام الكاظم (ع) عدة مرات. 3- قتل الإمام الكاظم بأن دس إليه السم. وكانت حادثة السم الأليمة لسيدي ومولاي الأمام موسى الكاظم(ع) غاية في الأجرام والخسة وكل أفعال الحكام العباسيين تسير على هذا المنوال وهذه الحادثة بالذات كانت تؤسس لمفهوم الإرهاب وتسيده في المنطق الإسلامي ليكون بهذا الشكل الحالي من اقتران ديننا الحنيف والقائم على مبدأ الرحمة والتسامح والمحبة مع العنف والإرهاب. ولأقف على ضريح الكاظم وقبته التي تشع كلها نوراً وألقاً واستذكر تلك الحادثة الأليمة لتقترن استشهاد الكاظم(ع) مع جده الأمام الحسين ولتكون الحضرة الكاظمية هي أرض للطفوف ثانية فهذا المجرم واللعين الشقي السندي بن شاهك بعد إن سمه السم عن طرق التمر أو العنب يقف أمامه فيقول له «زد على ذلك» فرمقه الإمام بطرفه وقال له: «حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه». لمّا تناول الإمام تلك الرطبات المسمومة تسمّم بدنه وأخذ يعاني آلاماً شديدة وأوجاعاً قاسية، قد حفت به الشرطة القساة ولازمه السندي بن شاهك الخبيث فكان يسمعه في كل مرة أخشن الكلام وأغلظه ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة وكأن الأثيم السندي يعيد التاريخ المؤلم لأهل بيت النبوة وتتمثل صورة الشمر اللعين ليجثو على صدر الأمام الحسن(ع) الشريف ويحتز الرأس الطاهر لجده الحسين ولتبقى الصورة الماثلة أمامي في صياح المجرم عمر بن سعد بجيوش الكفر بعد سقوط الإمام الحسين(ع) من صهوة جواده وهو يقول (احرقوا بيوت الظالمين} على خيم وذراري حرم رسول الله(ص) فكل الصور متشابهة من الكاظمية إلى أرض الطفوف ولتكتمل الصورة القبيحة للمجرمين بان قام المجرم السندي بن شاهك وضع الإمام على جسر الرصافة وهو ميت ينظر إليه القريب والبعيد وتتفرّج عليه المارّة قد أحاطت بجثمانه المقدّس شرطة الطاغية القاتل وكشفت وجهه للناس قاصدين بذلك انتهاك حرمته(عليه السلام) والحط من كرامته والتشهير به. وقد أمر السندي جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام بذلك النداء المؤلم الذي تذهب النفوس لهوله أسى وحسرة: «هذا إمام الرافضة فاعرفوه» هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ميتاً.وبقى الجثمان مسجى ثلاثة أيام ليتكرر مشهد جده الأمام الحسين في أنه بقى ثلاثة أيام على رمضاء كربلاء بلا غسل ولا تكفين عارياً. ولتكمل أيها الأمام الكاظم سيرة جدك الحسين في جعل أرض الكاظمية هي ارض الطفوف الثانية ولتلقى جدك رسول الله محمد(ص) وجدك الأمام علي(ع) وأمك الزهراء(ع) وآباءك الطيبين بجسدك المسموم وأرثك المغصوب وليكون كل هؤلاء وأنت معهم خصميهم يوم القيامة وأنت الذي تقول للطاغية هارون المتجبر ومن ظلم المطامير السجون وبكل شجاعة وإباء والتي عرف بها الأمام الكاظم لأنه من نسل أمير المؤمنين الأمام علي بن أبي طالب(ع) والذي طُلِبت منه تنازلاتٌ عن مبادئ الدين فأبى، ليثبّت معالم الحقّ ويُخزي مظاهر الباطل المتغطرسة فاضحاً دواخلها وأساليبها الماكرة. وكان الإمام عليه السّلام منصرفاً إلى العبادة، وخلال ذلك كان يؤكّد موقفه الصلب الذي سينتهي به إلى الشهادة، ويُعلن الحقائق التي يضيق بها الظالمون ذرعاً، ويُوعظ ويُوبّخ المتغافلين.. فيكتب يوماً رسالةً من قعر السجن يعنونها إلى الحاكم المتسلّط هارون العبّاسيّ: إنّه لن ينقضيَ عنّي يومٌ من البلاء، إلاّ انقضى عنك معه يومٌ من الرخاء، حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يَخسَر فيه المُبطِلون! (7) وهي سطرانِ تضمّنا: موعظةً، وتوبيخاً، وتهديداً.. أُرسِلا من السجن، من إنسانٍ مظلوم إلى طاغية متجبرّ، من حُجّةِ حقّ إلى إمام جور!. وفي النهاية أقف أمام قبتيك العاليتين وهي تعالي السماء عنفواناً وشموخاً لهذا الأمام العابد والزاهد والذي قد طلق الدنيا ثلاث مرات على سيره جده أمير المؤمنين لينال المنزلة العالية عند الله سبحانه وليبقى ذكره في عليين ولنسأل أين قبر هارون العباسي وأين مكانه؟ لنجد أنه قد هلك في أرض طوس وعند مدخل الطبرسي لضريح سيدي ومولاي علي بن موسى الرضا(ع) ليداس بالأقدام وهذا هو مصير كل الطواغيت وعلى مدى العصر فرغم تيجانهم وقصورهم وأموالهم وجاههم ليلقوا في نهاية المطاف وعند هلاكهم أسوا ميتة ولينبذهم التاريخ وليضعهم في أحط مكانة ومنزلة، وفي المقابل تجد ضريح العتبة الكاظمية تصبح مزار وقبلة لكل العشاق والمحبين وعلى اختلاف مشاربهم ودياناتهم ولتصبح القبة الشريفة تعانق الثريا ولتسجد كل الملوك والتيجان تحت قبته الشريفة.ولتقترن أسم بغداد باسم أسد بغداد أي بغداد الكاظم بعد إن كان الكثير والمخالفين يقرونها باسم بغداد الرشيد وليصبح اسم بغداد الكاظم شوكة تفقأ عيون كل النواصب والمخالفين. ولأوجه سؤالي إلى القراء الأعزاء من هو المنتصر في هذه المنازلة المظلوم أم الظالم؟ وأترك الجواب لكم. وقد كتبت مقالي المتواضع ذخراً لي لآخرتي ولأنال شفاعة أمامي وسيدي الكاظم(ع)وقد صدق قول الشاعر الذي يقول: قصدتك ياموسى بن جعفر راجيا *** بقصدك تمحيص الذنوب الكبائر ذخرتك لي يوم القيامة شافعا *** وانت لعمر الله خير الذخائر إذا ما دهاك الدهر يوما بمعضل *** وانزلت في واد من الهول مخطر وحاطت بك الاهوال من كل جانب *** عليك بباب الله موسى بن جعفر. لموسى والجواد أتيت أسعى *** لأشكو ما بقلبي من لواعج فذا باب المراد لمن أتاه ***وهذا للورى باب الحوائج. فالسلام عليك يا سيدي ومولاي يا موسى بن جعفر راهب أهل البيت يوم ولدت ويوم تقلدت الإمامة ويوم استشهدت بسم الغادرين ويوم تبعث حياً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ المصادر: 1 ـ صفحة المعجم الإسلامي. الأمام موسى الكاظم. 2 ـ الاصفهاني، ابو الفرج: كتاب الاغاني 5-225. 3 ـ القرشي، مرجع سابق ج11 ص449. 4 ـ أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج1، ص 100. 5 ـ الفقه الإسلامي - مدخل لدراسة نظام المعاملات فيه، محمد يوسف موسى: ص160. 6 ـ أعلام الهداية: الإمام موسى بن جعفر الكاظم، المجمع العالمي لأهل البيت، قم – إيران، الطبعة الأولى 1422هـ، ص 110. 7 ـ تاريخ بغداد 32:13، لأحمد بن عليّ الأشعريّ الشافعيّ، المعروف بـ « الخطيب البغداديّ » ت 463 هـ.
أقرأ ايضاً
- فلسفة الموت عند الإمام الحسين (عليه السلام)
- في رحاب باب الحوائج موسى كاظم الغيظ
- نهج الإصلاح في حياة الامام الكاظم ( عليه السلام)