لقد خلق الله تعالى الخلق ليقيم الناس العدل، ولا يتحقق العدل الا اذا كان الانسان مسؤولا، ولا يكون المرء مسؤولا الا بثلاثة شروط هي:
الحرية
الكرامة
الاختيار
هذه المعادلة العقلية والمنطقية تحدث عنها القران الكريم في العديد من الايات.
عن فلسفة العدل قال العظيم في محكم كتابه الكريم:
{لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} وقال تعالى {وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} وقال عز من قائل {ان الله يامر بالعدل والاحسان} وقال سبحانه {وامرت لاعدل بينكم} وقال تعالى {واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل} وقال سبحانه {واذا قلتم فاعدلوا} وقال سبحانه {ولا يجرمنكم شنان قوم على الا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى}.
ولذلك فقد تواترت الروايات عن اهل البيت عليهم السلام قولهم عن فلسفة ظهور الامام الثاني عشر من ائمة اهل البيت عليهم السلام الحجة المنتظر(عج) قولهم {يملأ الارض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا}.
اما عن فلسفة المسؤولية فقد قال تعالى:
{ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا}.
عن شروط المسؤولية، قال تعالى:
الف: عن الحرية:
{الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه اولئك هم المفلحون}.
باء: وعن الكرامة:
{ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
جيم: وعن تعدد الخيارات:
{وهديناه النجدين} و {انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} و {لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
دال: وعن حرية الاختيار بعيدا عن الفرض والاكراه:
{وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل} و {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} و {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي واتاني رحمة من عنده فعميت عليكم انلزمكموها وانتم لها كارهون}.
نستنتج من هذا النهج القرآني، معادلة انسانية ومنطقية وعقلية في غاية الاهمية، تقول، ان الانسان ملزم بان يقيم العدل في المجتمع وعلى كل الاصعدة، سواء كان حاكما او محكوما، فان عليه ان يعدل في قوله وفعله وحكمه، يعدل في العائلة ويعدل مع جيرانه ويعدل مع المجتمع، كما ان من واجبه ان يعدل في تعامله مع الحاكم اذا كان محكوما، ومع الرعية اذا كان حاكما.
ولكن، هل بامكان الانسان ان يعدل ان لم يكن مسؤولا؟ اي ان كان عاجزا عن تحمل المسؤولية؟ بالتاكيد كلا، لان الانسان غير المسؤول، ولاي سبب كان، لا يمكنه ان يمارس كل ما من شانه ان يحقق العدل في المجتمع.
اذن، يجب ان يكون الانسان مسؤولا لننتظر منه ان يمارس العدل في المجتمع، وقبل ذلك مع نفسه، فيفكر بعدل ويتحدث بعدل ويحكم بعدل.
هنا يقفز السؤال الاخر، وهو:
هل يمكن للانسان ان يكون مسؤولا اذا لم يكن حرا؟ او لا يتمتع بكرامته؟ او ان يكون مجبرا على شئ؟ سواء تعلق هذا الشئ بعقيدته او تفكيره او رايه او حتى مستلزمات حياته؟ بالتاكيد كلا والف كلا.
من هنا نفهم بان قاعدة العدل هي شروط المسؤولية، ولذلك فان الله تعالى في منهجه القرآني الرباني ابتدأ بشروط المسؤولية لينتهي بقيمة العدل، فالحرية اولا، والكرامة قبل المسؤولية والمسؤولية قبل تحقيق العدل، وهكذا في منظومة فلسفية رائعة تبدا بالحرية وتنتهي بالعدل وتمر بحرية الاختيار، لان الانسان المجبر على عقيدة ما لا يمكن ان يكون مسؤولا، وان غير المسؤول لا ننتتظر منه ان يقيم العدل ابدا.
ولقد بذل رسول الله (ص) كل جهده من اجل تحقيق هذا النهج القرآني، فاقام، صلى الله عليه وآله وسلم، العدل كقيمة عليا وهدف اسمى وجوهر للرسالة في مجتمع المدينة، ليس للمسلمين فحسب وانما لكل المواطنين الذين عاشوا في ظل سلطته السياسية، لان العدل قيمة انسانية وهي للجميع بلا استثناء او تمييز، اولم يقل القرآن الكريم {ليقوم الناس بالقسط}؟.
وبعد وفاته (ص) انقسم المسلمون الى تيارين:
الاول: هو الذي ظل ملتزما بالنهج القرآني الذي حوله، بتشديد الواو، رسول الله (ص) الى واقع يمشي على الارض بكل حذافيره، ولقد مثل اهل البيت عليهم السلام هذا النهج في سلوكهم وفي تعاملهم مع الاخرين، وعندما اعتلى السلطة امير المؤمنين عليه السلام وابنه السبط الحسن عليه السلام، وابنه الشهيد السبط الحسين عليه السلام في نهضته المباركة.
الثاني: هو الذي ابتعد شيئا فشيئا عن هذا النهج حتى انتهى باصحابه الى تحويل الخلافة الى ملك عضوض اقامه معاوية بن ابي سفيان، وهو الطليق ابن الطليق وابن آكلة الاكباد، والذي ورث، بتشديد الراء، السلطة الى ابنه يزيد الخليع الخمار اللاعب بالقرود.
بالنسبة الى التيار الاول، فقد تمثل النهج القرآني بفعل اهل البيت واداءهم وليس باقوالهم فقط، فمثلا:
عن عدم اجبار امير المؤمنين عليه السلام لاحد على البيعة يقول (ع) {ما منهم، اي المهاجرين والانصار، رجل الا وقد اعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره}.
ويصف لنا المؤرخون حال امير المؤمنين عليه السلام عندما طلبه المسلمون للخلافة بقولهم:
خرج علي الى المسجد فصعد المنبر وعليه ازار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس وجاؤوا بسعد بن ابي وقاص فقال علي بايع قال لا ابايع حتى يبايع الناس والله ما عليك مني بأس فقال الامام خلوا سبيله.
وجاؤوا بابن عمر (عبد الله) فقال له الامام بايع قال لا ابايع حتى يبايع الناس فقال الامام ائتني بحميل (اي كفيل) قال لا ارى حميلا فقال الاشتر خل عني اضرب عنقه فقال الامام دعوه انا حميله واضاف انك ما عملت لسئ الخلق صغيرا وكبيرا.
نفس المنهج الرباني سار عليه والتزم به الامام الحسن السبط عليه السلام، فعندما ساله اصحابه عن علة تسليمه السلطة لمعاوية اجاب قائلا {اني رايت هوى معظم الناس مع الصلح وكراهتهم للحرب فما اردت ان احمل الناس على ما يكرهون}.
وقال لبعض اصحابه ممن كان يكره الاتفاق مع معاوية ويميل الى حربه {ليس الناس مثلك، لا رايهم كرايك لا يحبون ما تحب}.
واضاف {ما اردت بمصالحتي معاوية الا ان ادفع القتل عندما رايت تباطؤ اصحابي عن الحرب ونكولهم عن القتال}
الحسن السبط عليه السلام، اذن، ملتزم بالنهج القراني الذي يعتمد على عدم الاكراه وتسليم الخيار بيد الناس، ليختاروا بارادتهم ومن ثم ليتحملوا عاقبة خياراتهم.
الحسين الشهيد السبط عليه السلام، هو الاخر ملتزم بنفس النهج القرآني، فهو لم يفرض ارادته على احد ابدا، لانه كان يؤمن بان الاكراه ضد الحرية وان من تسلب، بضم التاء، منه الحرية لا يكون قادرا على الاختيار، ومن لا يختار بارادته الحرة لا يمكن تحميله المسؤولية ابدا، ولذلك لطالما استوقف الامام اصحابه ليقول لهم { فمن احب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه منا ذمام}.
كما انه خاطب جيش البغي في اكثر من موقف بقوله { ايها الناس اذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم الى مامني من الارض} في محاولة منه عليه السلام لمنحهم حق الاختيار ليلقي عليهم الحجة تلو الاخرى مع ما له عليهم من الحجج البالغة.
بل انه خير، بتشديد الياء، اصحابه في ليلة العاشر، اي قبل سويعات من بدأ المعركة، بين البقاء معه او الانصراف، ليضع الخيار بايديهم فيتحملوا المسؤولية بارادتهم، فقال لهم {هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان القوم انما يطلبوني ولو قد اصابوني لهوا عن طلب غيري}.
اما التيار الثاني، فقد تطور لينتج في العصر الحديث كل الحركات التكفيرية التي تسعى لفرض اجنداتها بالقتل والتدمير، وهو النهج الذي تبنته اسرة آل سعود المتحالفة مع الحزب الوهابي منذ اكثر من قرنين من الزمن تقريبا، وما عمليات القتل والتفجير والتفخيخ والعمليات الانتحارية القذرة ضد الابرياء، كما حصل مؤخرا في مدينة البصرة الفيحاء عندما فجر ارهابي تكفيري حاقد نفسه في جموع المعزين باربعين سيد الشهداء عليه السلام، الا انموذج لهذا النهج الاموي الذي تمكن من رقاب المسلمين بالحديد والنار، فسحق حرية الانسان وصادر ارادته والغى حقه في الاختيار بارادة حرة وكريمة ليتحمل مسؤوليته بوعي وادراك، ليتحول الانسان، في ظل هذا النظام، الى دمية عديمة الطعم واللون والرائحة، همها علفها.
ولقد مثلت عاشوراء قمة التزام التيار الاول بهذا النهج القرآني، عندما رفض السبط الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام اعطاء البيعة للطاغية يزيد، ليس بصفته الشخصية فحسب، وانما بصفته نهجا منحرفا عن الفلسفة القرآنية التي تحدثنا عنها للتو، والتي تعتمد الارادة الحرة في الاختيار ليتحمل بعدها المرء مسؤوليته في هذه الحياة.
فعندما رفض الحسين السبط عليه السلام البيعة، فانما اراد ان يثبت الحقائق التالية:
اولا: ان الانسان حر في خياراته، فلا يحق لاحد ان يفرض عليه بيعة او موقفا او رايا او حتى دينا، وان فرض معاوية ولاية العهد لابنه يزيد على المسلمين لا يعتمد على دين او نص او سيرة او حتى على عقل سليم او منطق صحيح.
ثانيا: ان البيعة التزام لا يجوز للانسان ان يعطيها لكل من هب ودب، بل ان عليه ان يمحص في هوية الشخص الذي ينوي مبايعته، لانه مسؤول عنها وهي ليست لقلقة لسان او مصافحة يد بيد بلا معنى، ابدا، فلقد قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم {ان العهد كان مسؤولا} ولذلك فان المرء مسؤول على ان يدقق في خياراته قبل ان يختار، والا فانه سيتحمل عاقبة ما يفعل ويقول ويبايع.
ثالثا: ان للحاكم شروطا لا ينبغي تجاهلها، لاي سبب كان، لحظة عقد البيعة، ولقد اشار الامام امير المؤمنين عليه السلام الى ذلك في احدى خطبه بقوله {ولكني آسى ان يلي امر هذه الامة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا} كما اشار الامام الحسن السبط بن علي عليهما السلام الى هذه الشروط في معرض رده على معاوية عندما حاول ايهام المسلمين بانه اولى من الحسن السبط بالامر، اي الحكم، فرد عليه الامام عليه السلام بقوله {ويلك يا معاوية انما الخليفة من سار بسيرة رسول الله (ص) وعمل بطاعة الله ولعمري انا لاعلام الهدى ومنار التقى ولكنك يا معاوية ممن ابار السنن واحيا البدع واتخذ عباد الله خولا ودين الله لعبا}.
اما الامام الحسين الشهيد فقد تحدث عن هذه الشروط الواجب الاخذ بها عند البيعة، بقوله {ايها الناس ان رسول الله (ص) قال: من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء، يعني الحزب الاموي، قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستاثروا بالفئ واحلوا حرام الله وحرموا حلاله وانا احق من غير}.
لقد اراد الحسين السبط عليه السلام ان يثبت المبدا القرآني في لحظة هي في غاية الخطورة والحرج من تاريخ الامة، المبدا الذي يقول ان الانسان حر في خياراته، فللحسين ان يبايع او لا يبايع يزيد بعيدا عن كل انواع الضغط والاكراه والعسف، بغض النظر عن استحقاق الاخير للبيعة من عدم ذلك، فعندما اقدم الطاغية يزيد على قتل الحسين عليه السلام لانه رفض البيعة، انما ادان نفسه واثبت بذلك انه لا يلتزم لا بدين ولا برسالة، وانما همه السلطة فحسب حتى اذا جاءت على حساب دماء الناس وجماجم الابرياء.
ان كل ذلك هو الذي جعل الحسين السبط عليه السلام ان يتعامل بحزم شديد مع موضوع البيعة، لدرجة انه قال لاخيه محمد بن الحنفية {يا اخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ابدا} فالتشدد في الموقف جاء من قبل الحسين السبط عليه السلام لتثبيت النهج القرآني المشار اليه، ولولاه لما بقي من الاسلام الا اسمه ومن الدين الا رسمه، ولتحول المسلمون كلهم الى عبيد في حضرة (الخليفة) الظالم، كما هو شان الكثير من الشعوب (الاسلامية) التي غسلت ادمغتها ماكينة دعاية الحزب الاموي، اذا بامراء آل سعود ولاة امرهم، ويا لسخرية القدر، وصدق الحسين السبط حفيد رسول الله (ص) الذي قال {انا لله وانا اليه راجعون، وعلى الاسلام السلام اذ قد بليت الامة براع مثل يزيد}.
واليوم، فعلى الاسلام السلام ان قد بليت الامة برعاة مثل آل سعود، الذين ملئت بطونهم من الحرام وملئوا بالحرام والفسق والفجور من قمة رؤوسهم والى اخمص اقدامهم.
لقد ارادت عاشوراء ان تستحضر الامة كل الشروط التي تسبق تحقيق العدل، ولقد نجح الحسين السبط عليه السلام، بتضحيته الجسيمة، ان يهز ضمير الامة لتستعيد الامة حريتها وكرامتها وارادتها وقدرتها على الاختيار، لتتحمل، من ثمة، مسؤوليتها في التغيير ومواجهة الظلم والعدوان الذي يمارسه الطاغوت بحقها، عندما يسومها سوء العذاب بعد ان يتخذها خولا ويتصرف بالمال العام كملك خاص به وبعشيرته.
ان شعارات مثل:
{هيهات منا الذلة} {كونوا احرارا في دنياكم} {لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر لكم اقرار العبيد} {مثلي لا يبايع مثله} تحولت اليوم الى منهج ثوري يسعى كل الاحرار في العالم الى التعلم منه وتجسيده، لما تمثل من قيم ومفاهيم يتطلع اليها كل انسان بغض النظر عن دينه واثنيته ومذهبه وموطنه، على اعتبار ان الحسين عليه السلام للانسان وليس لدين او لمذهب معين، وهو كالشمس تشرق على كل البشرية، ويبقى لكل انسان طريقته واسلوبه الخاص في الاستفادة من نور شعاعها الوضاء.
*ملخص المحاضرة التي القيت في مهرجان اربعين الامام الشهيد السبط الحسين بن علي عليهما السلام والذي اقامته الجالية العراقية في العاصمة الاميركية واشنطن يوم الاحد (22 كانون الثاني 2012)