- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
دور المثقف في المشروع السياسي العراقي
للمثقف في المجتمعات المتقدمة مكانة لا تدانيها مكانة أخرى نظرا لدوره المحوري في مسار الحياة البشرية الذي لا يقتصر على التقييم والنقد وحسب بل على عرض المشكلات وتقديم الحلول أيضا الأمر الذي يفسح المجال لاجراء إصلاحات تساعد غالبا على توجيه المجتمع الوجهة الصحيحة وهذا مالمسناه بشكل خاص في أهم ثورتين حديثتين شهدهما المجتمع البشري ألا وهما الثورة الفرنسية والثورة الصناعية فيما يتعلق بالثورة الفرنسية ساهم المثقفون في أهم دور فيها ألا وهو تعريف الناس بحقوقهم وتعبئتهم ليكونواقادرين على المطالبة بها ممن كان يمثل ظل الله في الأرض فقد احدث مونتسكيو وجان جاك روسو و فولتير ثلمة في قناع السلطة البراق الذي كان يبهر العيون ببريقه المزيف بريق التفويض الإلهي الذي جعل الناس قانعين بما لديهم معتادين على البؤس والشقاء الذي تصوروه قدرا حتميا لا مجال للفكاك منه حيث دأبت السلطة السياسية والدينية على تضليل الناس بشأن الحقوق التي لهم ولولا دور المتنورين من أصحاب القلم لبقي الظلم قائما ولما شعر الناس بضرورة وحتمية التغيير والأمر ذاته حصل أثناء هديرالثورة الصناعية التي استغلها الأقوياء والمتنفذون لإنتاج عبودية جديدةهي عبودية الولاء لأصحاب رأس المال الذين ما رسوا طغيانا كبيرا كاد يعيدإلى الأذهان منطق العبودية القديم لولا حضور المثقف في الوقت المناسب ليقوم بواجبه في تحرير الناس من هيمنة وسطوة التباين الطبقي الذي يشيعه أصحاب رؤوس الأموال زارعين في نفوس الناس حب الكفاح من اجل العدالة والمساواة واستمر دور المثقف عامرا بالمواقف الرائعة منتقلا بالناس من حال إلى حال فكان نتاج ذلك هذا العالم الأكثر اقترابا من مصالح البشر العليا بعد أن وقف المثقف يحارب الظلم تارة والفساد تارة أخرى منددا بالحروب الطائشة التي أشعلها سماسرة الموت وأعداء السلام ويكفي أن نذكر تلك المقولة التي أطلقها احد أعداء الثقافة ووزيرها في حكومة هتلر غوبلزعندما أشار إلى انه عندما يسمع كلمة ثقافة يستشعر الحاجة لان يتحسس مسدسه وفعلا وقف المثقفون الألمان إلى جانب مثقفي العالم في مواجهتهم للطغيان الهتلري فكان دور المثقف بارزا في أدانه هذا الواقع البائس والانتقال بالبشرية إلى واقع أفضل هذا الأمر هو الذي الهم الحكومات الغربية العمل على أعلاء شأن المثقف وتقديمه على أي شأن أخر فأصبحت أطروحات وأفكار وتحليلات المثقفين الركن الأساس في سياسات الدول ويكفي أن نشير إلى دور مثقفي الحرب الباردة في ابقاء حالة اللا حرب ومنع انجرار العالم إلى حرب نووية طاحنة تقضي على كل شيء ثم جاء مثقفو النظام الدولي الجديد ليضعوا العالم أمام صورة جديدة وواقع جديد محذرين من مخاطر مهلكة كالإرهاب والكراهية كما تنبأ بذلك المثقف صموئيل هنتنغتون وغيره ونتيجة لهذا الدور الكبير والمساهمة العالية كرم المثقف في الكثير من دول العالم حتى أصبحت منزلته اكبر من منزلة السياسي فمن لا يتذكر ذلك الموقف الرائع الذي أقدم عليه محرر فرنسا شارل ديغول عندما سمع أن المفكر جان بول سارتر يرغب بمقابلته وكيف اجل اجتماع الحكومة ليلبي هذه الرغبة قائلا: ان فرنسا كلها في الباب أي أن المثقف في نظره ليس شخصا بحد ذاته بل كل فرنسا ولعل من ابرز عادات السياسيين في البلدان الأوروبية اشادتهم المستمرة بالمثقفين وبدينهم للحركة الحضارية معتبرين الجهود التي يقومون بها على أنها أساس النجاح الحضاري والتقدم الإنساني فيوشكا فيشر وزير الخارجية الألماني يصف المثقف يورغن هابر ماز بأنه فيلسوف الجمهورية الألمانية الجديدة مؤكدا فضله في إرساء معالم الواقع الجديد وقتاله من اجل ترصين جبهة الحداثة بموازاة جبهة ما بعد الحداثة التي كادت تزلزل بنيان العالم المعاصر باستخفافها بقيم الحداثة ورؤاها فكان موقف المثقف بارزا في خلق ثقة بالجهد الإنساني وحتمية نجاحه لقد شارك كثير من المثقفين في خلق واقع جديد لشعوبهم وفقدوا من اجل ذلك أرواحهم وهناءهم ولعلنا في العراق مررنا بهذه التجربة في اغلب فترات تاريخنا وربما نمتلك تاريخا في ذلك يضاهي معظم التآريخ (بمد الهمزة على الألف) المعروفة انطلاقا من أول مثقف صلب على محراب الكلمة الحرة وصولا إلى عصرنا الحالي وهاكم أمثلة على ذلك: ابن المقفع مترجم أو ربما مؤلف كليلة ودمنة الذي قطعت أوصاله بأمر المنصور العباسي و الجعد بن درهم الذي ذبحه خالد القسري وسعيد بن جبير المقتول بيد الحجاج وحسين بن منصور الحلاج الذي صلبه المقتدرالعباسي وابن الفرات وغيرهم الأمر الذي قد يجعل من العراق البلد الأكثر نزيفا للمثقفين بحكم تعرضهم لاضطهاد الغزاة والمستبدين المتعاقبين فالمثقف العراقي كان في الغالب داعما لحق الناس في الحياة الحرة الكريمة وكان يعمل من اجل تحقيق العدالة والمساواة رغم علمه بما قد يسببه ذلك له من اضطهاد وقتل فقد كانت لبعضهم مواقف غاية في الشجاعة والمبدئية كما في مواقف الزهاوي والرصافي والجواهري وغيرهم بل أن بعضهم تحدى الموت أمام خطر حكام العصر وقابلوا القسوة بالصمود والثبات على الموقف ولا أريد أن اذكر اسماء فاغفل بعضهم لان هدفي هو أن ابرز نضال المثقف والجهد الذي بذله في تعرية الحكام وإبراز أخطائهم وسلوكياتهم المنحرفة وتفنيد دعاواهم وشعاراتهم المزيفة وقد لا أغالي إذا قلت ان لبعض المثقفين دورا واسعا حتى في التمهيد للتغيير أو في الدعوة اليه بغض النظر عن وجود قسم اخر ربماوقف في الطرف المضاد ومارس دورا معاكسا لان هذا ما يدعم الحاجة الى تدعيم دور المثقف وتجنيده لصالح بناء الواقع الجديد ومثلما صرخ تشيخوف ذات مرة امام القيصر بأنه إذا أعطي خبزا ومسرحا فانه بإمكانه أن يعطي شعبا مثقفا بإمكان المثقف العراقي (وللكلمة مدلول خاص) أن يمارس الدور نفسه ويقدم للديمقراطية شعبا أمينا على حقوقه حريصا على أداء واجباته بما في ذلك السهر على حماية دولته وديمقراطيته مما قد تواجهه لان المثقف هو الوحيد القادر على ذلك لعدم ارتباطه بمشروع فئوي لان رجل الدين لايمكنه أن يفعل ذلك مهما امتلك من نزاهة وإخلاص لأنه يعيش في بلد منقسم دينيا وطائفيا والشيء نفسه بالنسبة للسياسي الذي لم يكن قادرا على التخلص من فئويته التي يترتب عليها نجاحه الانتخابي لكن المثقف ربما يمكنه أن يكون رسول السلام والمحبة بين الأطراف العراقية لأنه لايمتلك هوية فئوية أو مشروعا سياسيا خاصا ولا يوجد متخيل ضده كما هو الحال مع المتخيل ضد رجلي الدين والسياسة ما يجعله قادرا على ممارسة دوره التثقيفي دون الخشية من تأويل خاطئ أو سوء تقبل على أن يتم ذلك من خلال مؤسسات ثقافية صرفة ودون تدخل من الحكومة أو الأحزاب السياسية لان أي تدخل من هؤلاء في مهام المثقف أو في دوره سيكون له رد فعل عكسي وسينظر لجهودهم على أنها انحياز من المثقف لهذا الطرف أو ذاك الأمر الذي قد يدفع إلى التشكيك بهذا الدوروعدم التعاطي معه وبالتالي فقدان اداة مهمة من أدوات البناء الديمقراطي أن لم تكن هي أهم اداة لما تقدمه من حجج وأطروحات تساهم بشكل أكيد في تدعيم المسار الديمقراطي ولأجل ذلك نحن بحاجة لخطوتين مهمتين الأولى أعطاء حصانة سياسية وقانونية للمثقف تجعله متحررا من أية قيود قد تؤثر في خطابه السياسي أو الثقافي وتمنحه الثقة للقيام بمهامه في النقد والتحليل دون الخشية على حياته أو كرامته وتضمن له أي حقوق يخشى أن يفقدهابسبب طروحه أو أرائه فالمثقف هو أكثر من يستحق الحصانة واهم ما يحتاجها لأنه يمارس دورا خطرا وغير محمي ولان مهمته عامة أي ليست لنفوذ سياسي أو ما شاكل فان الواجب الأخلاقي يفرض أن يحصل المثقف على دعم وحماية من الدولة بشكل خاص لأنها المستفيدة الأولى منه فدعم كهذا ربما يسهم في دعم حملاته الثقافية وإنجاح مهمته الوطنية والإنسانية هذا ناهيك عما يؤدي أليه من الارتقاء بواقع الثقافة وبدورها ضمن سياق الحالة العامة أما الخطوة الثانية المطلوبة فهي إنشاء مجلس عام للثقافة لا يكون خاضعا لسلطة الحكومة حتى يبقى مستقلا عن أي تأثير أو هيمنة بحيث يمكنه أن يؤدي رسالته دون الخشية من أي اتهام بتحيز لحكومة أو لطرف من الاطراف لان وضع مؤسسة كهذه تحت ولاية مؤسسة أخرى كالحكومة هو تدمير لهدف الثقافة وتبخيس لدورها وربما يسهم في إفشال أي طرح ثقافي يقدم لدعم العملية السياسيةلان الطرح الثقافي أو النقد أو التحليل سيكون متهما منذ البدء بفقدان الاستقلالية وسيفقد تأثيره تبعا لذلك لذا ادعو من خلال هذا المقال كلا من الحكومة ومجلس النواب إلى القيام بهاتين الخطوتين المهمتين لأنهما ستساعدان على إنجاح المسار الديمقراطي ودعم عملية بناء البلد متمنيا من جميع المثقفين الدعوة إلى ذلك لأنهم الأولى بحمل هذه المهمة.
أقرأ ايضاً
- دور الذكاء الاصطناعي في إجراءات التحقيق الجزائي
- رمزية السنوار ودوره في المعركة
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى