- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المد الاصولي داء العصر الحديث
سمة غرائبية لا تبدو عفوية في المقصد التأسيسي لها وغير بريئة في النوايا المبطنة فيها أو الأهداف المعلنة عنها.. . وهي سمة ـ نشاز ـ تتمثل في بؤر ساخنة تطل على عالم آخر يتمثل بالمجتمع الدولي الذي يتجه نحو التوحد الداخلي (الذاتي) أو نحو التآلف والتحالف الدولي أو الإقليمي أو القاري بخطى ثابتة . وتبدو ملامح تلك السمة واضحة في مشهد تراجيدي يعبر عن تشتت مصادر القرار الوطني وتفكك الإجماع المفترض له وذلك حين يتحول الأصدقاء إلى أعداء دون مقدمات مقبولة أو سوابق إنذار مبيتة وعن قصد وعمد اذ يتقاتلون فيما بينهم ـ كنتيجة لاحقة ـ ويقتل بعضهم بعضا مع سبق الإصرار والترصد ويسفح الدم الوطني ويراق فوق ارض وطن متمزق بدون حساب أو مراجعة للضمير أو مراعاة للمصلحة الوطنية العامة .
وقد لا يبدو هذا المشهد كنسق تاريخي غريبا بالدرجة أو النوع أو القياس إذا ما تم استعراض حوادث التاريخ واستقراء حقائقه ضمن المناهج العلمية المتبعة للمختصين بهذا العلم وإذا ما تم الاعتراف أن الكثير من التاريخ مازال مطمورا تحت غبار النسيان أو بقيت أحداثه تحت رحمة التفسيرات والتأويلات ومع هذا فان مما لا تفسير تاريخيا مفهوما له أو تحليلا علميا موضوعيا مقنعا،هو التشرذم الداخلي والعداء النوعي ـ الضدي المستفحل بين خصوم متنازعين كانوا في الامس القريب (أخوانا) ضمن نسيج اجتماعي واحد متراص أو يحتفظ بحدود معينة من التراص أو كانوا ضمن جبهة تقاتل وتناضل في خندق واحد مشترك ضد قوى خارجية مثل الاستعمار والإمبريالية أو الاحتلال الأجنبي أو الضم الإقليمي .. أو ضد الديكتاتورية ومظاهر الحكم الفردي الاستبدادي والتسلط الأوتوقراطي والأنماط الشمولية التي تحكم بقهر الحديد والنار .. وفي كل الأحوال وقبل حدوث التشرذم هناك خندق من (الفصائل ) التي تجمعها روابط ومصالح عديدة مشتركة وحس وطني ليس بالسهولة بمكان الإتيان بأية محاولة تنظيرية لتحليل الأسباب والدوافع والظروف الكامنة وراء تشرذمها وتحولها من خندق واحد إلى مجموعة من الخنادق ومن تمسكها بهدف واحد إلى تشتتها إلى مجموعة من الأهداف المتعاكسة فيما بينها ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد وانما المشروع الوطني نفسه الذي تطرحه تلك الفصائل والتي كانت تقاتل و(تناضل) تحت يافطته ـ مهما كانت أيديولوجياتها ـ سيتحول إلى عدة مشاريع فئوية مجزأة اقل ما يقال عنها أنها لا تحمل الصبغة الوطنية ومن البديهي الذي لا مفر منه أن تجر تلك المشاريع الصف الوطني إلى انقسامات تلقائية تمس هيكلية الدولة وبنية المجتمع وتتعارض مع حتمية المصلحة الوطنية مشروعا لا بديل عنه لتحقيق الحد الأدنى من التوافق الوطني والترابط السياسي والانسجام الاجتماعي .
من الطبيعي أن المقصد التأسيسي للتشرذم الناتج عن تناحر الجماعات المتنازعة لا يحمل جذورا عفوية في أرضية التكوين (النشأة) أو يحمل البراءة في التوجه والانطلاق حيث أن تلك المشاريع غالبا ما تكون قاعدة موبوءة بالأطماع الدولية والمطامع الإقليمية والمصالح الفئوية الضيقة ومن الطبيعي أن تجتمع تلك الصفات لتكون مشهدا عاما تترابط فيه صفات عامة لمناطق ساخنة أو متوترة أو على حافة الانفجار او التي تكون قد انفجرت فعلا إذ تلتقي الصفات المشتركة وتتلاقح فيما بينها تأسيسا للمشهد مع تثبيت الصفات الخصوصية لكل منطقة ، وتتراءى لنا أفغانستان كنموذج قريب وحي على التشرذم الوطني وحسب المقاييس التي تؤشر ذلك يلحقه المشهد الفلسطيني كنموذج اقرب واكثر حيوية وليس المشهد العراقي الأكثر قربا وحيوية وأهمية ببعيد عن ذينك المشهدين فمع احتفاظه بخصوصيته وغرائبيته ألا انه يشترك معهما بكثير من الخصائص مما يعطي شعورا بالمأساة والدموية التي تلف الملامح العامة لكل مشهد وشعورا جامعا باصطباغ الأفق المنظور لتلك المشاهد بالقتامة والرؤية الرمادية غير الواضحة للمستقبل أو على الأقل لحاضر قريب يعطي قسطا بسيطا من التفاؤل والانفتاح إضافة إلى رزوح الواقع الراهن المعاش تحت تداعيات التدهور الحضاري والمعرفي والتفسخ الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والقصور الواضح في الجانب الخدماتي وقلة فعالية البنى التحتية وتفشي الفساد بكل أنواعه وترهل مؤسسات الدولة وضعف أدائها المؤدي إلى عدم استتباب الأمن واستفحال ظاهرة الميليشيات ـ أو الفصائل المتقاتلة ـ كبديل عن قوة الدولة.
أما المشهد الأفغاني فقد ارتبطت انساقه المعقدة والمتشابكة مع تداعيات الغزو السوفيتي لهذا البلد وما رافقه من ملابسات تاريخية واجتماعية ومذهبية واثنية تزامنت مع (قبل واثناء وبعد) الغزو وتتمثل أيضا بملابسات دولية تتعلق بالحرب الباردة والصراع الطاحن بين القوتين العظميين آنذاك، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي ومنظومات الدول التي كانت تدور في فلكيهما وان كان الاتحاد السوفيتي إبان غزوه لأفغانستان يلفظ أنفاسه الأخيرة وكان على وشك السقوط ، وهناك ملابسات محلية أوجبت حتمية التحالفات الداخلية ـ بين الفصائل ـ وأخرى خارجية بين تلك الفصائل وبين القوى التي كان من مصلحتها اصطياد الدب الروسي في الفخ الأفغاني وفي ظرف دولي وإقليمي متوتر سيما بعد قيام الثورة الإيرانية ،ومع الاعتراف بتناقضات الشأن الأفغاني وتعقيداته ـ المزمنة ـ واستشراء التناحر القبلي والحزبي والقومي فيه ألا أن نشوء طاليبان (طلاب المدارس الشرعية) ذي التوجه الأصولي التكفيري كان الإسفين الذي شق الوحدة الهشة بين الفصائل الأفغانية التي كانت توجه فوهات بنادقها نحو العدو المشترك وما إن وضعت الحرب (حرب التحرير ) أوزارها حتى تحولت الفوهات إلى حمم متقابلة أشعلت الأخضر واليابس وحولت ارض أفغانستان إلى حمام من الدم .ويتكرر المشهد ذاته في فلسطين وبمواصفات متقاربة في تصارع الاخوة الذين كانوا ولعهد قريب يقارعون الاحتلال الإسرائيلي وكانت اجندتهم تتشابه أو تتماثل نوعا ما بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة وبكافة أجنحتها ولكن الأحداث الأخيرة بين فتح وحماس أثبتت بان هذا (الحلم) بعيد المنال بتكرار القصة ذاتها في الأصولية الاسلاموية المتمثلة بحماس وما حدث من تفكك بنيوي كبير وتشتت سياسي خطير يشكل شرخا عميقا في الجسد الفلسطيني وتمزقا لا يستهان به داخل الصف الوطني الفلسطيني .ويأتي تنظيم القاعدة الإرهابي التكفيري وهو اخطر تنظيم أصولي اسلاموي معاصر، ليلعب دورا محوريا في العراق منذ ما يقرب من أربع سنوات وهو اكثر واكبر من الدور الذي لعبه ويلعبه المد الأصولي في أفغانستان وفلسطين والجزائرـ وحاليا في لبنان على يد فتح الإسلام ـ وغيرها وبملابسات داخلية تتعلق بالوضع العراقي (وهو وضع يختلف عن غيره في كثير الأمور) بعد التغيير الذي حصل في نيسان 2003 وبملابسات دولية تتمثل بالوضع الدولي العام والوضع الإقليمي الخاص وقد استحال العراق أرضا وشعبا ومرتكزات وبنى تحتية وعناصر جغرافية وديمغرافية إلى الخندق الأمامي في الحرب الدولية على الإرهاب نيابة عن المجتمع الدولي ، وتكمن خطورة المد الأصولي في العراق في أن الحرب الدولية على الإرهاب حرب شاملة وليست جزئية، يتصارع فيها طرفان أحدهما المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والثاني الإرهاب العالمي بقيادة تنظيم القاعدة التكفيري مع امتداداته على الأرض العراقية وقد حاول المد الأصولي المتمثل بالقاعدة أن يحدث شرخا بليغا في الجسد العراقي الذي خرج مثخنا بالجراح من جراء الطغم الحاكمة والأنظمة الاستبدادية التي توالت على حكمه ، وحاولت القاعدة كذلك وبالتعاون مع العناصر التكفيرية التي تتبنى الطرح نفسه ومن خلال العمليات الإرهابية ، أن تجر أطياف الشعب العراقي إلى مهاوي حرب أهلية طاحنة . أما المشهد الأفغاني وفصائله المتناحرة فهو يعطي لنا صورة تأسيسية ـ اخرى ـ للمشهد العراقي الذي تحولت فيه اغلب الفصائل التي قارعت النظام البعثي السابق والتي كانت تتفق اجندتها على إسقاط الديكتاتورية واعادة اعمار العراق واحقاق الديمقراطية وإنشاء قواعد المجتمع المدني كحد أدنى من الاتفاق ،تحول اغلبها إلى فصائل متناحرة حول السلطة ومكاسبها والانتفاع من الوضع الجديد لأغراض فئوية خاصة واخيرا ،إن المد الأصولي يختلف عن أي مد انتشر في العراق أو الشرق الأوسط أو في دول العالم الثالث فهو عبارة عن وباء وداء عضال وسرطان مستعر وليس مجرد نزعة فكرية أو توجه عملي محض وللحديث صلة..
أقرأ ايضاً
- المسؤولية المدنية المترتبة عن استخدام الذكاء الاصطناعي
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود
- اختلاف أسماء المدن والشوارع بين الرسمية والشعبية وطريقة معالجتها