- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الاضداد والمتشابهات في فقه العقوبات
بقلم: مروة حسن لعيبي / دكتوراه قانون جنائي
كثيرٌ من المصطلحاتِ في فقه العقوبات قد تبدو للوهلة الاولى ان لها ذات المعنى والمفهوم، وقد تبدو مصطلحاتٍ متشابه اضداداً رغم انها تكّون مفهوما واحداً، و يرجع ذلك لعدة اسباب منها تتعلق بشمولية معنى المصطلح من سواه، و المجال الذي ينبع منه والاصل الفلسفي ، والجذر اللغوي، والاساس المنطقي لكل مصطلح . وقد لا يكون المصطلح متشابها او ضدا لغيره انما يكون جزءاً منه او اشمل ، يكمله او يحد من نطاقه.
ولما كان القانون يرتبط في اصوله باللغة ،فأن لهذه الاخيرة علومٌ تُظهر معانيها وتُجلي مقاصدها وتوضح حروفها، وهي كثيرة اهمها (علم الدلالة "السيمنطيقا") والذي يعرف بأنه العلم الذي يتناول المعنى والشرح والتفسير ويبحث بالشروط الواجب توافرها في الرمز (المصطلح ) حتى يكون قادرا على حمل المعنى، ويقتضي هذا العلم دراسة معقدة تفكيكية تبحث التضاد لاجل الوصول الى المعنى والدلالة. ويظهر ارتباط القانون باللغة جليا عند صياغة النص القانوني من المشرع اولا، والتعامل الفقهي والقضائي مع النص الكائن مسبقا ثانيا والاخير هو ما يعنى به المقال. اذ قد يكون للمصطلح مدلولا اصطلاحيا يتوافق تماما مع المدلول اللغوي او يختلف عنه، وبسبب ذاتية كل قانون وطبيعة الدور الذي يؤديه والمصالح التي يحميها يُلحظ ان هناك تباين في مدلولات ذات المفاهيم في القوانين المختلفة ،مثال ذلك ما ورد في المادة (3/اولا) من قانون رعاية القاصرين العراقي رقم (78) لسنة 1980،وما ورد في قانون رعاية الاحداث رقم (76) لسنة 1983فيما يتعلق بتعريف الصغير ،كذلك الحال بالنسبة لمدلول الموظف ،والحيازة والمال ، وسبب ذلك يعود الى ان ذاتية التجريم والعقاب تدفع الى تفسير تلك المصطلحات تفسيرا متفقا مع العلة من التجريم ولو كان هذا التفسير مختلفا عن المفهوم المأخوذ به في القانون الذي تنتمي اليه هذه المصطلحات اصلا ، ويبدو ذلك جليا عندما تقوم قواعد التجريم والعقاب بإعطاء بعض المراكز غير الجزائية نطاقا اكثر اتساعا عن مدلولها الذي تفسر به في القانون غير الجزائي الذي تنتمي اليه اصلا.
وبحسب الاصل يفترض ان اللفظ الواحد يرد في القانون الواحد بمعنى واحد ،الا انه قد يستعمل المشرع لفظا واحدا في قانون واحد ولكن يقصد به معانٍ مختلفه وهنا يأتي دور الفقه والقضاء في اضفاء المعنى حسب ارادة المشرع في ضوء جغرافية النص وسياقه وعلته. فقد يبدو ان لمصطلح الاختلاس الوارد في قانون العقوبات في المواد (439و315) ذات المعنى ، الا ان القول بذلك يؤدي الى نتائج لا يمكن التسليم بها وتنعكس اثارها على البنيان القانوني للجريمة، فالاختلاس المكون لجريمة السرقة هو اخراج الشيء من حيازة المجنى عليه دون رضاه وادخاله في حيازة اخرى ،اما الاختلاس المكون للركن المادي في جريمة الاختلاس فيتم بكل فعل يرتكبه الجاني ويكشف نيته في حيازة المال الذي اؤتمن عليه من حيازة مؤقتة على سبيل الامانة الى حيازة كاملة بنية التملك.
كذلك بالنسبة لمدلول الاغتصاب الوارد في المواد (393و451و452/1) اذ ان المدلول الاصطلاحي للاغتصاب وكما عرفه جارسون بأنه (الوقاع غير المشروع لانثى مع العلم بإنتفاء رضاها ) وهذا معناه الوارد في المادة (393) والاخذ بذات المعنى في المواد الاخرى يؤدي الى نتائج غير منطقية لا يمكن التسليم بها.
وفي فقه العقوبات مصطلحات تتعلق بفن الصياغة والسياسة القانونية تثير اللبس عند كثير من المهتمين قد تبدو انها مترادفات تعطي ذات المعنى ،الا ان لها مدلولات قانونية مغايرة في كل مصطلح ، واكثر ما يثار ذلك فيما يتعلق بمدلول (المادة القانونية ،النص القانوني ،القاعدة القانونية ،المبدأ القانوني ،المعيار القانوني ،والانموذج القانوني) في القوانين الجزائية الموضوعية. فالتفرقة بين المادة القانونية والنص من جهة والقاعدة من جهة اخرى تبدو في ان المادة القانونية: (Articles)هي الوعاء الذي يتضمن النص وتكون بمجموعها قانون معين وتشير الى الغاية من تشريعه ،وقد تتضمن نصا واحدا او اكثر اما النص فهو الوعاء الذي يتضمن القاعدة القانونية وتبرز من خلاله المصالح او الحقوق التي يريد المشرع حمايتها او تنظيمها وقد يتضمن قاعدة واحدة او اكثر، اما القاعدة القانونية فهي اللبنة الاولى للقانون والتي تكون عامة مجردة ملزمة وتتكون من شقين تكليف وجزاء قد يتضمنهما نص واحد او يتوزعا اكثر من نص في قانون واحد او اكثر من قانون. اما الانموذج التشريعي فقد عُرف بأنه الشكل القانوني للجريمة الذي يضم كل العناصر اللازمة لقيام الجريمة التي لو تخلف احدها لامتنع قيامها.
وقد يثار اللبس والخلط بين التفسير والتكييف والوصف ، فتكييف الواقعة هو ردها الى اصل نص القانون واجب التطبيق عليها والخطأ فيه يعد خطأ في تفسير القانون وتطبيقه ، اما الوصف فهو النتيجة النهائية التي ينتهي بها عمل المحكمة بالتكييف فالاخير يفترض فهم الواقع وفهم القانون لالحاق الواقعة بلقانون ،واعطائها الوصف القانوني ، ويلاحظ ان قانون اصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 (المعدل) استخدم مصطلح الوصف القانوني بديل عن التكييف في المواد (187،224،227،229) . ويختلف التكييف عن التفسير من حيث مجالهما ، فمجال التفسير هو النص القانوني ،اما مجال التكييف هو الواقعة و القانون ،فلا تكييف بدون تفسير ،والوقائع لا يمكن فهمها الا من خلال فهم واعمال نص القانون الذي يتسع لها. ويترتب على التمييز بين التكييف والتفسير ان تغيير التفسير قد يفضي الى تغيير التكييف الا ان تغيير التكييف لا يفضي الى تغيير التفسير.
ان ما تقدم هو انموذجا للتشابه والتضاد في فقه العقوبات ،اذ هناك من المصطلحات الفقهيه فضلا عن القانونية التي قد تثير اللبس عند القاضي والفقيه مما يتطلب البحث في دلالتها اللغوية والاصطلاحية بالرجوع الى علم الدلالة والمنطق واصول الفقه وفلسفة المعرفة وكافة المكنات العقلية الاخرى التي تمكنهم من التفسير وفقا لعلة النص.
أقرأ ايضاً
- مسرحية العقوبات الامريكية على كتيبة صهيوني
- العقوبات سلاح دمار شامل
- جرائم افشاء الاسرار فی ظل مقترح قانون العقوبات الجدید