- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون في المحكمة الاتحادية العليا.. الجزء الثاني
د .حسن الياسري
- دراسةٌ دستوريةٌ تأصيليةٌ معززةٌ بتجارب المحاكم الدستورية في العالم -
سلسلةٌ من أقسامٍ خمسةٍ
القسم الأول
التفسير الدستوري لإطلاق اسم (المحكمة)
على المحكمة الاتحادية العليا
الجزء الثاني (٢-٣ )
كنَّا قد عرضنا في الجزء الأول من هذا القسم الحجَّة الأولى التي يستند إليها الفريق القائل بعدم جواز دخول فقهاء القانون وخبراء الفقه الاسلامي في المحكمة الاتحادية العليا، وهي قولهم إنَّ الدستور أطلق اسم (المحكمة ) عليها. وفي معرض الرد على هذه الحجَّة قلنا إنها لا أساس لها من الدستور والقانون .وقد عرضنا الردَّ الأول ومفاده إنَّ للدستور الحاكمية ،وهو الذي يُحدِّد المصطلح وأبعاده. وسنكملُ في هذا الجزء عرض الدليلين الثاني والثالث .
ثانياً : الدليل الثاني :
الحقُّ إنَّ إطلاق اسم (المحكمة) على هذه الهيئة لا يتعارض مع خصوصية تأليفها من الناحية الدستورية ؛ ذلك أنَّ الغاية من الإطلاق ،بحسب الفقه الدستوري ، أنها تمارس وظيفةً قضائيةً بالمحصِّلة ؛ لأنَّ لها الولاية العامة من جهةٍ ،ولأنَّ قراراتها تحوز قوة الشيء المقضي فيه وتكون حجةً على الكافة من جهةٍ أخرى.
ولذلك تُطلق الدساتير الدولية اسم (المحكمة) على هذه الهيئة،وتصفها بالـ (الهيئة القضائية المستقلة) رغم أنها قد لا تضمُّ قاضياً واحداً في تجارب دستوريةٍ مرموقةٍ. بل إنَّ الدساتير ،بحسب التجربة الدولية ، تُطلق على أعضاء المحكمة الدستورية كافةً صفة (القاضي) رغم أنَّ أغلبيتهم ليسوا من القضاة،كما سيتبيَّن ذلك كله عند الحديث لاحقاً في القسم الرابع عن التجارب الدولية في إنشاء المحاكم الدستورية.
وأكثر من ذلك إنَّ تجربة المجلس الدستوري، وهو مجلسٌ تكون المسحة السياسية فيه أكثر بروزاً، هي أيضاً تُطلق اسم (المحكمة) أو (الهيئة القضائية) على عمل المجلس. ويكاد الفقه الدستوري في فرنسا وفي لبنان يُجمع على أنَّ المجلس الدستوري يمارس "وظيفةً قضائيةً".
فلا إشكال لديهم في ممارسة الوظيفة أوالعمل القضائي ـ من الناحية الدستورية ـ من أعضاءٍ ليسوا قضاةً ؛ ولذا سنجد أنَّ المحاكم الدستورية الدولية تُطلق على أعضاء المحكمة صفة (القاضي) حتى وإنْ كان أغلب أعضائها من غير القضاة ؛ لأنَّ المحكمة ذات طبيعةٍ دستوريةٍ خاصةٍ تمارس القضاء الدستوري ، وليست محكمةً عاديةً تابعةً للقضاء العادي تمارس القضاء العادي ، والفرق بين الاثنين واضحٌ لدى المتخصِّصين.وسنفصِّلُ القول في ذلك في الجزء الثالث من هذا القسم عند الحديث عن الفرق بين القضاء الدستوري والقضاء العادي .
ثالثاً : الدليل الثالث :
كما أنَّ الدستور لا يمانع من ممارسة الوظيفة أو العمل القضائي من أعضاء ليسوا بقضاةٍ، بل ويُطلق عليهم (قضاة) وعلى الهيئة (محكمة)، فكذا القانون لا يمانع من إطلاق اسم (المحكمة) على الهيئة ،وممارسة الوظيفة القضائية من أعضاءٍ ليسوا قضاةً.
وفي الحقيقة ينتابني العجب من استغراقنا في سرد هذه الأمور التي ينبغي أن تكون بديهيةً لمن يملك أدنى مستوىً قانوني. وعموماً سأذكر لمحةً موجزةً عن بعض المحاكم التي تنعقد بحضور الأعضاء من غير القضاة ويمارسون الوظيفة القضائية رغم أنهم ليسوا بقضاةٍ، وهي : المحكمة الادارية العليا ومحكمة القضاء الاداري ومحكمة قضاء الموظفين ومحكمة الكمارك والهيئة التمييزية للكمارك ومحكمة الأحداث ومحكمة الاحداث المركزية والمحكمة الإدارية المختصة بالعقود الحكومية.
وسنتناول تأليف هذه المحاكم تباعاً إن شاء الله :
1ـ المحكمة الادارية العليا ومحكمة القضاء الاداري ومحكمة قضاء الموظفين :
إنَّ كلَّ هذه الهيئات يُطلق عليها اسم (المحكمة) مع أنها لا قاضي واحداً فيها، وإنَّ جلَّ مَن فيها هم من أساتذة الجامعة القانونيِّين أو بعض الموظفين القانونيِّين. فإطلاق اسم (المحكمة) وعلى العمل (الوظيفة القضائية) هو بحسب طبيعة العمل ؛ إذ إنها تُصدر قراراتٍ على وفق القانون كما يصدرها القضاء، وتقبل الطعن، ومن ثم تحوز حجيَّة الشيء المقضي فيه.
2 ـ محكمة الكمارك :
وتتألف من قاضيين وموظف من الكمارك حائز الشهادة الجامعية الأولية في القانون لا تقل درجته عن الثالثة يسميه وزير المالية (المادة 245 من قانون الكمارك لعام 1984 النافذ). وبحسب النص الأصلي قبل التعديل كانت المحكمة تتألف من قاضٍ واحدٍ وموظفين قانونيين اثنين من الكمارك.
فهي محكمةٌ رغم أنَّ أحد أعضائها الثلاثة موظفٌ من الكمارك.
3 ـ الهيئة التمييزية للكمارك :
وتتألف من قاضيين وأحد المديرين العامين في وزارة المالية.(المادة 250 من قانون الكمارك لعام 1984 النافذ).
4 ـ محكمة الأحداث :
وتتألف من ثلاثة أعضاء، أحدهم من القضاة والثاني من القانونيِّين والثالث من المختصين في العلوم ذات الصلة بشؤون الأحداث،كعلم النفس وعلم الاجتماع.(المادة 545 من قانون رعاية الأحداث رقم 76 لسنة 1983 النافذ).فهي محكمةٌ ثلاثيةٌ أحدهم قاضٍ والثاني قانونيٌ والثالث إما مختصٌ في علم النفس أو علم الاجتماع، ولا علاقة للثاني والثالث بالقضاء بحسب التخصُّص كما هو واضح.
5 ـ محكمة الاحداث المركزية :
وهي تتألف بالطريقة ذاتها التي يتم فيها تأليف محاكم الأحداث في مراكز المحافظات، أي من قاضٍ وقانونيٍ ومختصٍ في علمٍ النفس أو علم الاجتماع.
6- المحكمة الإدارية المختصة بالعقود الحكومية :
لقد كانت المادة (8) من تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم (1) لسنة 2007 -الملغاة بالتعليمات رقم (1) لسنة 2008 - تنص على تأليف محكمةٍ إداريةٍ تختص بالعقود الحكومية، تكون برئاسة قاضٍ يُنسَّب من مجلس القضاء الأعلى وعضوية ممثلٍ عن وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي لا تقل درجته الوظيفية عن مديرٍ عامٍ وممثلٍ عن اتحاد المقاولين العراقيين.
7- منح سلطة قاضي جنح إلى ضابط المرور ومفوض المرور :
تمنح المادة (8) من قانون المرور رقم (8) لسنة 2019 النافذ ضابط المرور سلطة قاضي جنح في فرض الغرامات.بل أكثر من ذلك إنَّ الفقرة (ب) من هذه المادة تعطي هذه السلطة -قاضي جنح- لمفوض المرور.
فإذا كان مفوض المرور يُمنح سلطة قاضي جنح ، وهي سلطةٌ أصيلةٌ لا يتمتع بها سوى القاضي ، فما بالك بتفسير الدستور من قبل المتخصصين من فقهاء القانون أو من بعض الشخصيات العامة ، وهم أقدرُ على هذه المهمة من القاضي ، والتي يمنعها البعضُ متذرِّعين بأنَّ المحكمة الدستورية هي محكمةٌ ويجب أنْ لا يكون فيها إلا القضاة !!
إنَّ كل المحاكم المذكورة في أعلاه ، وغيرها مما يشبهها، هي محاكمٌ بكل معنى الكلمة، وقد يُصدِر بعضها قراراتٍ سالبةً للحرية، توقع عقوباتٍ بالحبس أو السجن، ومع ذلك فبعض أعضائها ليسوا بقضاةٍ. كما أنَّ محكمة القضاء الإداري ومِن فوقها المحكمة الادارية العليا، هي في غاية الأهمية والاعتبار، ولعلها تأتي بعد المحكمة الاتحادية العليا - الدستورية- في الأهمية من هذه الناحية - لا نعني المقارنة مع عمل المحاكم العادية الخاضعة لإشراف مجلس القضاء الاعلى-.فلقد قضت مثلاً في بعض قرارتها ببطلان إقالة محافظٍ ما سبقَ أن أقالهُ مجلس المحافظة ،وأَعادتهُ للمنصب. وقد قضت في قراراتٍ أخرى بصحة إقالتهِ من المجلس، ولم تسمح له بالعودة إلى منصبهِ. وهكذا أصدرت قراراتٍ في غاية الأهمية والخطورة مما يتعلق بتغيير المراكز القانونية لوزراء ووكلاء ومديرين عامين، وغيرهم، والتي بدورها أحدثت تأثيراً كبيراً في مسار الدولة -سلباً أو ايجاباً-، ومع ذلك فليس فيهم قاضٍ واحد.
فإذا كانت محاكمُ بهذه الخطورة، وإذا كان بعضها يصدرُ قراراتٍ سالبةً للحرية ينبغي أنْ لا تصدر إلا عن الجهاز القضائي ، ومع ذلك أصدرها بعض الأفراد الذين لا علاقة لهم بالقضاء. فكيف تستكثرون أن يقوم فقيهُ القانون، ونحوه، بتفسير نصوص الدستور، مع أنَّ المنطق الدستوري في العالم يؤكد أنَّ هذا الفقيه هو الأقدرُ والأفضلُ في تفسير الدستور من القاضي ؛ لأنها صنعتهُ، وليست هي صنعة القاضي!!
ومع ذلك فالدستور العراقي لم يستبعد القضاة، لأن لهم دوراً تخصصياً أكثر من غيرهم ورد في بعض الاختصاصات في المادة (93) من الدستور، مثل الفصل في المنازعات التي تنشأ بين الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات، إذ القاضي يكون هنا أقدر من فقيه القانون، وكذا يكون الخبيرُ في الفقه الاسلامي أقدر من القاضي ومن فقيه القانون في تفسير ثوابت الاسلام، وهكذا.
وسنكملُ عرض الدليل الرابع في الجزء الثالث إن شاء الله ، والمتعلق ببيان الفرق بين القضاء الدستوري والقضاء العادي ..
أقرأ ايضاً
- حماية البيانات الشخصيَّة
- الجنائيَّة الدوليَّة وتحديات مواجهة جرائم الكيان الصهيوني
- التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة