تشهد شوارع العاصمة بغداد منذ سنوات عدة حالة غير مألوفة لدى الناس، حيث تنتشر السيارات الفارهة وباهظة الأثمان بشكل واسع جدا وعلى نحو متصاعد، ليؤشر مراقبون الحالة ويرجعون أسبابها إلى التفاوت بدخل العراقيين، وضعف الإجراءات الرقابية، مما شكل "ظاهرة الطبقية" بنوعيها الاقتصادية الطبيعية، والسلطوية الحزبية.
وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في الأوضاع الاقتصادية لأغلب شرائح المجتمع العراقي، سواء الموظفين منهم أو صغار التجار والمقاولين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، إلا أن أسعار تلك السيارات لا تتناسب مع اقتنائها من قبل هذه الطبقات التي تعد ضمن الطبقة الوسطى، بل هي مؤشر على أن أصحابها من الطبقة المترفة.
ويقول طالب رشيد (55 عاما) أحد أصحاب معارض السيارات الفارهة في بغداد، "نحن كأصحاب معارض سيارات لا نمتلك صلاحية سؤال المشتري، ماذا تعمل ومن أين لك هذا، فنحن بالتالي تجار، وهذا بيع وشراء والسوق مفتوح".
ويضيف رشيد، "لكني أستطيع التأكيد من خلال خبرتنا في التعامل مع الزبائن أن أغلبهم يعمل في الدولة أو له علاقات نافذة، فضلا عن المشاهير وهم زبائننا المفضلون، ما عدا التجار والمقاولين".
من جانبه، يوضح علي حسين (49 عاما) صاحب معرض سيارات آخر، أن "مبيعات السيارات المعروفة بثمنها الباهظ ومنشأها المتميز، هي المرغوبة لدى فئة محددة، تأتي تطلبها بالاسم، لكن لا نستطيع أن نحدد ماهيتها، إلا أنه من الظاهر لنا أنهم معروفون في المجتمع، ويمتلكون أموالا طائلة".
وعن أصحاب الدخل المحدود، يؤكد أنهم "لا يشترون هذه السيارات في الغالب، وحتى الموظف المتمكن ماديا لا يستطيع شراءها، لكن عموما فإن المبيعات جيدة جدا، والأمور متجهة للتحسن أكثر عاما بعد عام".
يشار إلى أنه باستثناء السيارات الأغلى في العالم من طراز "رولز رويس، ولامبوغريني، وبوغاتي، وفيراري" وإصدارات أخرى من السيارات، تتصدر سيارات الدفع الرباعي قائمة الأعلى سعرا في العراق والعالم، وهي "جي كلاس" من شركة "مرسيدس" الألمانية، ويتراوح سعر الواحدة منها من موديل 2023 بين 160-180 ألف دولار (نحو 240- 270 مليون دينار عراقي تقريبا)، و"تاهو" من شركة "شيفروليت" الأمريكية، ويتراوح سعرها بين 62-85 ألف دولار (93-127 مليون دينار عراقي تقريبا)، وتعادل هذه الأسعار شراء منازل بسيطة ومتوسطة الثمن في العاصمة بغداد الأغلى بأسعار العقارات، كما أنها تعد رؤوس أموال تفوق بكثير ما تقدمه الحكومة العراقية عبر المصارف لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة للقضاء على البطالة.
وعن أسباب انتشار واتساع مبيعات هذا النوع من السيارات، وهل تشكل "ظاهرة طبقية" فعلا، يبين الخبير الاقتصادي ناصر الكناني، أن "أصحاب رؤوس الأموال في القطاع الخاص هم من أنشأ هذه الحالة، فهم يشترون حتى الأرقام المرورية، وليست السيارات فقط بملايين الدنانير".
ويلفت الكناني، إلى أنه "باستثناء الفقراء ومن هم تحت خط الفقر، فإن غالبية المجتمع العراقي يتقاضون رواتب حكومية تتراوح بين 500 ألف دينار شهريا ومليوني دينار كحد أعلى، ولذلك لا يستطيعون شراء هكذا سيارات، إلا إذا سلكوا طرقا غير مشروعة لتحصيل الأموال وشرائها".
ويؤكد "حتى أعضاء مجلس النواب بمجموع رواتبهم خلال 4 سنوات لا يمكنهم شراء منازل فارهة أو سيارات فارهة من هذا النوع، إلا أن هذه الفئة تنحصر بنحو 5 بالمئة من الشعب، وهم أصحاب الدرجات الخاصة والرئاسات الثلاث من جهة الدولة، إضافة الى القطاع الخاص".
وبحسب بيانات وتصريحات سابقة لهيئة النزاهة ومسؤولين حكوميين ونواب، فإن العديد من المسؤولين والنواب أثروا بشكل واضح وامتلكوا منازل وعقارات وسيارات وشركات لا تتناسب مع مدخولاتهم المالية وأوضاعهم الاقتصادية قبل تسنمهم مناصبهم.
من جهته، يرجع همام الشماع، الخبير الاقتصادي، أسباب هذه الظاهرة، إلى "تفاوت الدخل الكبير بين المواطنين والكسب غير المشروع، الأمر الذي خلق فجوة بين الفقراء والأغنياء، وهي من الأسباب الرئيسة لظواهر من هذا النوع، فالموظف الذي يسرق هو ذراع لفاسد كبير في الدولة ومسيطر ومتنفذ في نفس الوقت له قيادة مخضرمة".
ويلفت الشماع، إلى أن "العراق لا يمتلك إحصائيات دقيقة عن توزيع الدخل، والإحصاءات التي تخرج بين الحين والآخر من الجهاز المركزي للإحصاء، فأرقامه هي بما يروق للحكومة لأنه تحول إلى العمل السياسي، وكأنما وزارة التخطيط أصبحت جزءا من الدعاية للحكومة، ويمتنع عن نشر الأرقام التي تظهر الظواهر السلبية في الاقتصاد العراقي".
وحول إمكانية ضبط تلك الظاهرة، يرى الخبير القانوني عدنان الشريفي، أن "ذلك يكمن في حلين، أولهما تطبيق قانون (من أين لك هذا؟) والذي ينبغي أن تعمل به هيئة النزاهة، فحين تظهر هناك إمكانيات مادية لمسؤول لا تتساوى مع مدخوله، فهنا ينبغي التحرك لتسأل من أين لك هذا؟، حتى تجد الدليل، وهنا تحديدا، يبدو أنه يطبق على على فئة معينة غير محمية".
ويتابع الشريفي، أن "الطريق الثاني لضبط الظاهرة تعتمد إخبارات السلطات المختصة عن تضخم الأموال لدى موظف دخله محدود، وحين يتم الرصد، يقوم الادعاء العام برفع دعوى للتأكد من عائدية أمواله".
ويشدد على أن "هؤلاء هم يتبعون لأحزاب متنفذة، ويجعلون هيئة النزاهة في حرج كبير لعدم وجود قوة تفوق قوة الأحزاب، فكلما استقوت الأحزاب كلما ضعفت الدولة".
وبثت وزارة الداخلية في وقت سابق، اعترافات لمتهم ببيع أطفاله من أجل شراء "سيارة تاهو ومنزل" إضافة إلى مبلغ مالي، في توسع للظاهرة، لتنحى منحى اجتماعيا جديدا.
بدورها، تنبه رئيسة الباحثين في منتدى صنع السياسات العامة، رنا خالد، إلى أنه "في حال انكماش أو تضخم الاقتصاد تحدث حالة الطبقية، حيث تعتبر حالة مرافقة للاختلالات الاقتصادية، وهنا يظهر دور السياسات العامة في حماية المجتمعات من الآثار السلبية للطبقية أو اللا مساواة، حيث تقوم بعدة إجراءات لانتشال الطبقات الهشة والضعيفة وحتى الوسطى، من خلال أنظمة الرعاية وسياسات حماية الدخول الضعيفة ومشاريع التوظيف التي تقوم بها الحكومة وغيرها".
وتوضح خالد، أن "الحالة في العراق تختلف لأن السياسات العامة لحماية هذه الطبقات هي بالأصل ضعيفة لا تستطيع الحد من هامش الفقر في المجتمع، مما أضعف الطبقة الوسطى لتظهر طبقتان بصورة واضحة في العراق، أثرياء وفقراء".
وفيما يخص الاتساع بشراء السيارات الفارهة، تشير إلى أن "هذه الظاهرة هي مؤشر على الفساد وانعدام الرقابة على دخول الموظفين، وهو أمر خطير جدا، ويرتبط بالسياسات الحمائية في القضاء على الفساد الإداري ومحاسبة موظفيها".
وتبين أن "القانون هو جزء من الحل، وهو لا يستطيع وحده أن يحاسب فاسدين تغولوا في دوائر الدولة، وسيطروا عليها وتراكمت أموالهم، ويجب أن تكون هناك استيراتيجية تقضي على المحاصصة الحزبية والنسيج الخاطئ في المؤسسات بالدولة العراقية بصورة شاملة".
ولا يملك العراق قانون "من أين لك هذا"، بل يعتمد على قانون هيئة النزاهة ومكافحة الفساد فقط، الذي أكد رئيسها القاضي حيدر حنون، بأنهم ماضون بتطبيقه على المسؤول والموظف على حد سواء، بحسب بيانات سابقة.
تجدر الإشارة إلى أن هيئة النزاهة والقضاء العراقي أصدرا العديد من أوامر الاستدعاء والقبض بحق مسؤولين عراقيين بتهم الفساد المالي والكسب غير المشروع خلال العام الحالي والسنوات الماضية.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- "بحر النجف" يحتضر.. قلة الأمطار وغياب الآبار التدفقية يحاصرانه (صور)
- بينهم عروس تستعد ليوم زفافها :قصف وحشي في بعلبك يخلف (19) شهيدا منهم (14) طفلا وأمرأة
- سعر النفط بموازنة 2025.. طبيعي أم يؤدي لأزمة؟