- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة؟
بقلم:حسن الجنابي
(جزء- 7) *
كان الصراع على الزعامة عربياً مع الرئيس السوري حافظ الأسد مريراً ودامياً وشديد الحساسية، لأنه صراع حزبي وفي القلب من تنظيم حزب البعث وايديولوجيته الجامدة. إمتد الصراع بشكله العنيف الى داخل البلدين سورية والعراق، فضلاً عن الساحتين اللبنانية والفلسطينية. وقد ظهر على شكل تفجيرات وتنظيمات مسلحة وانشقاقات ومحاولات إغتيال وإعدامات، مورست خلالها كل ما في ميادين التآمر والمخابرات من خفايا الصراعات الدامية، مع فارق ملموس في أداء الطرفين.
قارن على سبيل المثال “حنكة” الرئيس السوري حافظ الأسد عام 1976 في إضفاء غطاء شرعي عربي على التدخل العسكري السوري في لبنان، مقابل تهور مواقف حكومة البعث في العراق ولجوءها الدائم الى العنف والغدر والتقلب. هذا ما حصل مثلاً في علاقتها مع إيران قبل وبعد الثورة الإيرانية. وكذلك ما جرى من اقتتال بين الفصائل الفلسطينية، او في الإغتيالات التي لحقت بقادة فلسطينيين وعراقيين كانو منخرطين مع فصائل المقاومة الفلسطينة، ومنهم الصحفي العراقي المعارض عادل وصفي، المعروف بإسم خالد العراقي، المنخرط حينها في أطر حركة فتح بقيادة ياسر عرفات، إذ صُفّي بتاريخ 20/6/1979 في بيروت.
جرت تصفيات مشابهة لمعارضين آخرين في مناطق عديدة من العالم، ومنهم اليساري المعارض توفيق رشدي الذي اغتيل في 1/6/1979 في اليمن، والمعارض الشيخ طالب السهيل في 2/4/1994 في بيروت، وهو والد السيدة السفيرة صفية السهيل. كما جرت محاولات فاشلة لإغتيال الاستاذ فخري كريم في 27/8/1982 في بيروت، والدكتور أياد علاوي في 4/2/1978 في لندن، وتصفية الجنرال عبد الرزاق النايف في 9/7/1978 في لندن أيضاً، فضلاً عن إغتيالات سابقة زمنياً كإغتيال الجنرال حردان التكريتي في30/3/1971 في الكويت وهلم جرّا.
استخدمت السفارات العراقية كمراكز متقدمة للتخطيط والتنفيذ في أغلب تلك الأنشطة، وبعضها كانت تجري تحت هاجس الصراع المرير مع حافظ الأسد وفي فترات اخرى مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
على صعيد آخر كان يجرى صراع مشابه مع الرئيس الليبي معمر القذافي، وإن كان بدرجة أقل. وفي الحالتين السورية والليبية كان الصراع يجري على خلفية علاقة البلدين مع إيران، الى جانب إعتبارات أخرى، منها ايديولوجية ومنها ما هو متعلق بطموحات الزعامة لدى الأقطاب الثلاثة. المثير أن الثلاثة الساعين للزعامة العربية، صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي، انتهت بلدانهم الى الدمار وعدم الإستقرار فجرى احتلال العراق بعد تحطيم قدراته العسكرية والاقتصادية ووانفجار الحرب الأهلية في سوريا وفي ليبيا.
لقد بدد اؤلئك “القادة” جهودهم وثروات بلدانهم على أنشطة خارج حدودهم الوطنية في لحظات غطرسة واستبداد ولا مسؤولية، متناسين أن “الداخل” الوطني هو الفاعل الرئيسي لإستقرار البلدان وإزدهارها. ولم تحصد شعوب المنطقة من مغامراتهم الخارجية وطموحات الزعامة الزائفة، والايديولوجيات المتعصبة الواهمة، سوى الخيبات والألم والفقر والاحتلال والحروب الأهلية.
فقد “تنافس” الزعماء الثلاثة، المتشابهون في شدة القمع الداخلي لشعوبهم، على تمويل منظمات مسلحة متنوعة ومتصارعة في فلسطين ولبنان وارتيريا وغيرها. وفي الوقت الذي نجح فيه حافظ الأسد في عام 1976 بإقناع الجامعه العربية بالوجود “الشرعي” لما سمي حينها “قوات الردع العربية”، وهو قرار إعتراض عليه نظام البعث العراقي، الذي لم يحضر الإجتماع الخاص بذلك أصلاً، كان العراق قد إنغمس في تسخير امكانياته التجسسية والمخابراتية الكبيرة لسحق معارضيه والمختلفين مع توجهاته حتى لو كانوا من غير العراقيين في العراق وخارجه. ودعّم تشكيل منظمات رديفة او انشقاقية، ومولّها وسلّحها ومنها “جبهة التحرير العربية” وغيرها على الصعيد الفلسطيني.
وبعد تزايد حدة الخلافات مع قيادة منظمة فتح الفلسطينية جنّد العراق لصالحه الشخصية المثيرة للجدل أبو نضال (صبري البنا) الذي أصبح أداةً بيد صدام لفترة طويلة من الزمن. نفذ ابو نضال جرائم إغتيال لقادة فلسطينين، منهم سعيد حمامي في باريس، وعز الدين قلق في لندن، ونعيم خضر في بروكسل وصلاح خلف (أبو أياد) في تونس والكاتب يوسف السباعي في مصر وغيرهم، لكن محاولته لإغتيال عبد الحليم خدام باءت بالفشل وكذا محاولته إغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وهي الذريعة التي استخدمت لإجتياح لبنان في حزيران 1982.
من المثير أن ولاءات “ابو نضال” امتدت في ظروف مختلفة لخدمة النظامين السوري والليبي أيضاً، لكن نهايته الفاجعة جاءت على أيدي المخابرات الصدامية في بغداد بتهمة التآمر مع الكويت كما قيل، ولكن أشيع أيضاً بأنه انتحر في شقته في بغداد في 17 آب 2002.
انخرطت السفارات العراقية آنذاك في توسيع وتخطيط نشاطاتها حسب التوجهات السائدة والتعليمات النافذة لتكون ذراعها الضارب او “غطائها” الدبلوماسي، برغم أن بعض تلك الأنشطة كانت تجري بدون علم السادة السفراء أحياناً.
بالتوازي مع النشاط “القومي” في المحيط العربي كان صدام حسين يسعى الى تحقيق هدفه المزدوج الأوسع المتمثل بزعامة العالم الثالث وبمحاصرة إيران دبلوماسياً بعد ان أستقوى على الظروف التي اجبرته على توقيع اتفاقية 1975 مع الشاه الإيراني.
ركّز العراق خلال ذلك على العمل في القارة الأفريقية، وأسفر العمل عن تمثيل دبلوماسي واسع شمل إقامة (13) سفارة في القارة السوداء، وتقديم المساعدات المادية وفتح الجامعات للدراسة وغير ذلك. تزايد حينها النفوذ العراقي السياسي والاقتصادي في أفريقيا كثيراً، بما فيها في المجال العسكري كما في تشاد التي كانت في نزاع مع القذافي.
ما يزال العراق حتى اليوم يمتلك عقارات ثمينة في بعض العواصم الأفريقية، وأن الوجود الدبلوماسي العراقي الحالي في أفريقيا، وهو وجود رمزي يعود في جانب منه للحفاظ على تلك الأملاك والعقارات. وشخصياً اعتقد ان بعض تلك الأملاك قد تبدد والبعض الآخر في طريقه الى الضياع والإستيلاء عليه تجاوزاً من قبل مواطني تلك الدول. وهذه معضلة حقيقية اذ لا يمكن استعادة تلك الأملاك بدون محاكم طويلة ومكلفة وغير مضمونة، خاصة في ظل انعدام القدرات العراقية في الدفاع عن حقوقه السيادية أمام المحاكم الدولية. لقد كنت شخصياً في عام 2018 رئيساً لدائرة افريقيا في الخارجية العراقية واطّلعت على بعض تلك التفاصيل.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير