بقلم: د. عماد عبد اللطيف سالم
كلّ تاريخ العراق "الحديث"، لا يزيد عن مائة عام.
قبل ذلكَ أيضاً، مثلما هو أثناءه ..
كان خرابُنا (دائماً).. عميماً .. وضارِباً في القِدم.
كانت تجارتنا "ترحاليّة"، فلم يُراكم تجّارنا رأس المال في العراق، بل راكموهُ في إيران والهند وتركيا.
كان "تُجّارَنا" في أفضل أحوالهم "شِلّةٌ" من "الكومبرادور" الذينَ يتطفّلونَ على "احتياجاتنا" في المدنِ، أو "مُلاّكاً" شبه إقطاعيّين، غائبينَ عن الريف، حيث "السراكيل" تقومُ بواجبها في "دبغ" جلود "أجدادنا" المسلوخة.
كانت صناعتنا أوليّة، وبائسة، و"صغيرة"، وكان أكبرها "تجميعيّا" لا غير، فلم نتقدّم خطوةً "حقيقيّةً" واحدةً في أيّ مجال، ولم يكبَر المصنع، ولم تتنوّع السِلَع.. ومع ذلك، تمّ تدميرُ كُلّ ذلكَ لاحِقاً، وعُدنا إلى عصور ما قبل الصناعة.
كانت زراعتنا "آشوريّةً" و"أكّدِيّةً" و"سومريّةً"، وما تزال، لنعودَ (لولا تصدير النفط مقابل المحاصيل المُستَوردَة)، إلى عصر الجوع.
كانت أموالنا تعبرنا الى بلدان أخرى، ولم نحصل منها إلاّ على الفتات.
كانت خيراتنا في مجملها للآخرين، وليس لنا سوى الرماد والسَبَخ.
كُنّا، وما نزال، ممنوعين من "الأنتقال" لوضعٍ أفضل، ولنمطٍ إنتاجيّ أفضل، ولنظام اقتصاديٍّ أكثرُ تطوراً مما نحنُ فيه.
كُنّا، وما نزال، محرومينَ من عيشِ حياةٍ أكثر رفاهيةً (بمالنا ومواردنا المتاحة)، ومن ممارسةِ سلوكيّات وتصرُفّاتٍ أكثر رُقِيّاً، من خلال عشرات "التنظيمات" الإجتماعية والسياسية "غير التقليدية"، التي ما لبثت أن أكلت نفسها وأبناءها، وخاضت في وحلها ودمها، وفي وحلنا ودمنا أيضاً.
كان معظمُ "زعمائنا"، و "قادتنا"، و"أولي الأمر والنهي" فينا (سياسياً واجتماعياً)، مجرّدَ "أقنانٍ" صِغارٍ تابعينَ، و"مُلتَصقينَ" بـ "العثمانيين"، و"البريطانيّين"، و"السوفييت"، و"الأمريكيّين"، و"لآخرينَ" أيضاً، وما يزالون، إلاّ ما رحمَ ربّي.
كان العراقيّون (دائماً)، وما يزالون، أعداءَ أنفسهم.
حاولت "قِلّةٌ"هائلةٌ منهم أن تعكِسَ هذا المسارَ "الانتكاسي"، من خلال الأدب والفنّ و"التنظيم" والعلمِ والفكرِ والعقلِ والتربية والتعليم.. فتمّ عزلها، وتهميشها، وسحقها ببطءٍ وتصميم، على مدى خمسينَ عاماً.. وكان ذلكَ قد تمّ دونَ رحمةٍ بها من قبل جميع "الأنظمةِ" التي تعاقبتْ على حُكمنا، والتحكّمِ برقابنا ومصائرنا .. ليعودَ العراقُ بذلك "حَضاريّا" إلى عصر ما قبل الكتابة.. بل إلى عصر ما قبل الإقطاع.. بل إلى عصرما قبل الريف.. بل إلى عصر ما قبل البداوة.
كانت هذه، وماتزال، هي تفاصيلُ الخرابُ العراقيُّ العميق.
أخيراً.. ليسَ هذا عَرضاً سوداويّاً لروحٍ إنهزامية سلبيّة .. ولا "جَلْداً" للذات.
هذا "استعراضٌ" سريع لخرابِ "الذات" التي لم يَعُد لديها "جِلْدٌ" يُغطّيها.
الذات التي لم تعُدْ تمتَلِكُ "جِلداً" قادراً على المقاومة، وقابلاً للإحتمال.
الذات التي تمسّكَت طويلاً بـ"جِلْدِها" الوطنيّ، إلى أنْ اهترأ من كُثْرِ ما تناوشتهُ السِياط.
مع ذلك ..
المجدُ للقادمين.
المَجدُ لـ "الثوّار"..
نعم "الثُوّار"..
الذين لا يُرمّمونَ جلوداً قديمة، ولا يَستبدِلونَ "جِلدَ" مرحلةٍ ما، بـ"جِلْدِ" مرحلةٍ أخرى، بل يُعيدونَ زراعةَ الجلود القادمة من الضوء.. فوق المساماتِ والأرواحِ والأنفُسِ التي أنهكها الخراب.
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي