عباس الصباغ
إذا كانت الميكافيلية هي الضابط الأساس لمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة فان بعض الغايات تبررها وسائل هي بعيدة كل البعد عن الأسس الأخلاقية متجردة حتى من الهامش الميكافيلي النسبي او الجزئي المتاح للمتعاطي للوسيلة وصولا إلى الغاية المتوخاة بالتحرر كليا من أي ضابط أخلاقي او مبدئي وعلى هذا الأساس وبدوغمائية فجة ولغة تسقيطية مقصودة وفنطازيا استعراضية مبتذلة وبتهريج مفتعل لاستدرار الضحكة من أفواه المشاهدين واستعطاف انتباههم وسط الكم الهائل من القنوات الفضائية التي تعرض الكثير من النتاجات الدرامية ذات المواصفات الفنية الجيدة بحسب متطلبات "السوق" تحاول بعض الفضائيات "العراقية" إقحام الدراما في مجالات السياسة عنوة من خلال تسييسها وادلجتها وبقياسات معدة سلفا وبمواصفات درامية لا تشبه الدراما التي توسم بالسياسية أو تدخل مضمار السياسة بتوظيف بعض الحيثيات دراميا ومعالجتها لأغراض فنية محددة تتمتع بكاريزميات ومقاربات مهنية معروفة للمختصين في هذا المجال.
وهكذا يكون تناول الدراما للسياسة فنيا أو مهنيا بالأسلوب الذي يبطن بان الدراما مسيسة حتى النخاع ليس بتناولها مواضيع سياسية للمعالجة الفنية البحتة وإنما باختلاق أو افتعال مواضيع أو مشاهد واصطناع سيناريوهات مفبركة تتضمن إشارات أو تلميحات وأحيانا تصريحات تشير الى بعض تفاصيل الواقع العراقي الراهن الذي أعقب التغيير النيساني وبتوصيف مقارب للإعلام الأصفر الموجه أو المضاد أو الكيدي أو المغرض أو المؤدلج.
فالخطاب الإعلامي المنطلق عبر الأثير من تلك الفضائيات باعتبارها إحدى الأدوات الفاعلة لتوصيل المعلومة للمتلقي ، قائم على النظر بعين عوراء باستخدام أسلوب التسقيط عبر انتقاء المادة المراد توجيهها انتقاء مقصودا لبعض المظاهر التي يعج بها المشهد العراقي خصوصا ما يتعلق منها بحالات الفساد السياسي والإداري والمالي والاجتماعي وغير ذلك فضلا عن ملفات الأمن والإرهاب والتهجير والخدمات والبطاقة التموينية والبطالة والفقر وغيرها ، وباختصار يجري انتقاء وتسييس كل ما ورثه المشهد العراقي من الحكومات السابقة يضاف إليه ما استجد بعد زوال النظام السابق من حيثيات وتداعيات وأزمات ومشاكل ومآس ٍ وذلك بتوظيفها بشكل تهويلي مبالغ فيه ومقصود وإلصاق مسؤولية أسباب ونتائج الوضع المأزوم بالعملية السياسية التي ما تزال قائمة منذ نيسان 2003 مع الإشارة المقصودة بان المشهد العراقي كان بخير قبل "الاحتلال" وان الإنسان العراقي كان يعيش قبل هذا الاحتلال في "بحبوحة" وان المجتمع العراقي كان مجتمعا متماسكا ومتعايشا وراضيا في الوقت نفسه عن النظام السياسي آنذاك وان جميع المصائب والمواجع والفواجع والجروح الغائرة وحمامات الدم والتخندق الطائفي والاحتراب المذهبي والتشرذم السياسي والعزلة الإقليمية والتشظي المجتمعي والتفتت الطوبوغرافي والخراب الاقتصادي والتقهقر التنموي والفساد الذي جعل العراق في "خانة" متقدمة في تقارير الشفافية الدولية، كل ذلك جاء بسبب الإطماع الامبريالية والمطامع الاستعمارية التي تجسدت بالغزو الانجلوـ أميركي الذي أطاح بذلك النظام الذي تحاول هذه الفضائيات أن تسوقه أمام الرأي العام على كونه "ضحية" المؤامرات الدولية والإقليمية (نظرية المؤامرة) وبعض "العملاء" الذين جاؤوا على دبابات الاحتلال وهمراته، وكل ما تقدم يمثل جزءا من الإستراتيجية الإعلامية العامة التي تقوم على أساسها الأجندة المريبة لتلك الفضائيات تمويلا وتسويقا وطرحا وأهدافا من خلال النفاذ عبر معاناة الإنسان العراقي ومكابداته اليومية والمعيشية التي تراكمت عبر العقود العجاف الماضية، وهذه الأسباب وغيرها لم تولد نتيجة الصدفة المحضة أو كانت نتائج عابرة لمرحلة أو حقبة معينة لها مقارباتها السياسية والتاريخية والسيوسولوجية والانثروبولوجية بل تولدت وتناسلت عبر عقود ثمانية مضطربة في كل الميادين ومتشظية في كل المجالات كانت ذروتها إبان الحكم البائد وليس من المنطقي او العقلاني او الأخلاقي في أحسن تقدير أن تقوم بعض الفضائيات المغرضة او التي في قلبها مرض بإعادة إنتاج و"تزويق" تلك الحقب ومعها حقبة حكم البعث المقبور على أنها كانت تمثل "الفردوس " الذي كان يتنعم في ظله العراقيون إلا من كان على شاكلة ذلك النظام وكان يتقوت على فتات موائده ومنها هذه القنوات التي تحاول مغالطة جميع الوقائع والأدلة والوثائق والقفز على منطق التاريخ والمتاجرة بمعاناة المواطن العراقي لإغراض هي بعيدة كل البعد عن الدراما التي سيست عنوة وعن أي خطاب إعلامي ناضج وبمنهج ميكافيلي مبتسر وأهداف لم تعد تنطلي على اللبيب .
أقرأ ايضاً
- اهمية ربط خطوط سكك الحديد العراقية مع دول المنطقة
- حماية الاموال العراقية قبل الانهيار
- نصيحتي الى الحكومة العراقية ومجلس النواب بشأن أنبوب النفط الى العقبة ثم مصر