إن النهضة الحسينية بما جسدته من قيم ومبادئ ليست ظرفاً طارئاً وحالة استثنائية، وإنما هي امتدادٌ لحركة الأنبياء وجوهر الرسالات الإلهية، فما دعا إليه الإمام الحسين (ع) هو ما دعا إليه الأنبياء (ع) ولهذا كان وارثاً للأنبياء جميعاً. فحقيقة النهضة الحسينية بالقيم والمبادئ التي جاهد من أجلها أبو عبد الله الحسين (ع)، وهي ثابتة لا يعتريها التغير والتبدل مهما تغير الزمان والمكان.
النهضة الحسينية وهوية المذهب:
بل إن نهضة الإمام الحسين (ع) بقيمها ومبادئها جاءت دفاعاً عن هوية الأمة، فإبان النهضة الحسينية كانت الأمة تسير على خط الانحراف على الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي، وحينما تقاعست الأمة عن مسؤوليتها في الإصلاح وقبلت بحكم الظلم وسيادة الباطل فقدت هويتها وشخصيتها الرسالية.
إن الهوية الرسالية للأمة لا تحفظ إلا إذا كان هناك انفصال بين خط الإيمان وبين خط النفاق، حيث لا يمكن أن تكون هناك هوية لخط الإيمان وهو يتماهى مع خط النفاق ويوالي الطغيان والاستكبار. ومشكلة الأمة هي علماء البلاط ووعاظ السلاطين الذين يشرعنون للظالم ولايته على العباد وحكمه على البلاد، ويبررون له الظلم والاستبداد.
وهذه كانت مشكلة الأمة إبان النهضة الحسينية، حيث سادت في الأمة تيارات ثقافية ودينية فاسدة هي التي ضيعت هوية الأمة. فكان علماء البلاط ووعاظ السلاطين يشرعنون الحكم الأموي ويفلسفون مواقفه ويبررون له الظلم والاستبداد، وحينما خرج الإمام الحسين (ع) لطلب الإصلاح في أمة جده انبرى علماء البلاط لإدانة الإمام الحسين (ع) وشرعنة قتال أهل بيت النبوة (ع) فأفتى شريح القاضي تلك الفتوى النتنة : \"إن الحسين خرج عن حده فليقتل بسيف جده\". فحينها كانت الأمة تعيش مسخاً لهويتها الرسالية.
فجاءت النهضة الحسينية بقيمها ومبادئها دفاعاً عن هوية الأمة، فكانت هوية الأمة تتمثل في التشيع الذي حافظ على الانفصال التام بين خط الإيمان وخط النفاق. وهذا ما يميز مذهب أهل البيت (ع) عن غيرهم أنه حركة إصلاحية ترفض كافة صور الفساد الثقافي والاجتماعي والسياسي. ومن هنا فإن هوية مذهب أهل البيت (ع) تبلورت واتضحت أكثر بفعل قيم النهضة الحسينية، فصارت التيارات الإصلاحية الشيعية تتزود من قيم كربلاء، فقيم النهضة الحسينية هي التي حافظت على هوية التشيع وعلى انفصال خط الإيمان عن خط النفاق.
والأمة الإسلامية اليوم لم تفقد هويتها وشخصيتها إلا حينما ابتعدت عن قيم النهضة الحسينية، فالأمة حينما هادنت الظلم وحالفت النفاق والفساد وتخلت عن مسؤوليتها الإصلاحية حينها فقدت عزتها وكرامتها وشخصيتها. وبقدر ما تجسد الأمة من قيم النهضة الحسينية بقدر ما تسترد من هويتها وشخصيتها. وهكذا التشيع لا يمكن له أن يحافظ على هويته إلا بتجسيد قيم النهضة الحسينية. فهوية التشيع مرهونة بقيم النهضة الحسينية.
الواقع والمقاربات الثقافية
حينما ننظر في الساحة نرى أن المقاربات الثقافية التي تطرح من أجل التغيير الجذري هي مقاربات مختلفة. البعض يرى أن النهضة الحسينية بقيمها ومبادئها تمثل جوهر الرسالات الإلهية فهي امتداد لحركة الأنبياء، ولهذا هي تمثل المنطلق لثقافتنا ومواقفنا، بل هي تمثل الميزان لكل المواقف والثقافات، فهي الحارس لهويتنا من التشويه والتحريف. والبعض الآخر ممن لا يرى القيم الحسينية منهجاً للتغيير الجذري يحاول أن يصور النهضة الحسينية على أنها حركة استثنائية فرضتها الظروف، وأنها ليست الأصل في حركة أئمة الهدى (ع). ولهذا نتساءل: ما هو الأصيل في النهضة الحسينية، وما هو الاستثناء؟
في الحقيقة ينبغي ألا نخلط بين قيم النهضة الحسينية وبين المواجهة العسكرية، ومن يقول بأن النهضة الحسينية ظرف استثنائي وحالة طارئة ينبغي ألا تُعمم خلط بين قيم النهضة الحسينية وبين المواجهة العسكرية. فلا شك إن قيم النهضة الحسينية هي جوهر الرسالات الإلهية التي لا يمكن أن تتبدل أو تتغير في ظرف من الظروف. وهذا ما وجدناه من منهج الأئمة (ع) على المستوى الثقافي وعلى مستوى مواقفهم، حيث لم نجد أحداً منهم (ع) كان يشرعن موالاة الظالمين أو يشرعن للظالمين مواقفهم، لأن هناك أصل قرآني وقيمة رسالية لا يمكن أن تتبدل مهما تبدلت الظروف والأوضاع السياسية. قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ).[1] فقيادة الرسالية ومن معها من المؤمنين مطالبة بالاستقامة، وعدم الركون إلى الظالمين، والركون إلى الذين ظلموا له مصاديق كثيرة، منها موالاة الظالمين وشرعنة مواقفهم. وهذا الأمر الإلهي هو الذي يحافظ على الاستقلال بين خط الإيمان وبين خط النفاق. فإذاً قيم النهضة الحسينية ثابتة.
أما المواجهة العسكرية، فنعم هي حالة استثنائية تفرضها الظروف ومصلحة الأمة، إلا أن المواجهة العسكرية في عاشوراء ليست هي حقيقة النهضة الحسينية، وإنما حقيقتها بمواقفها التي كانت تعبر عن قيم الرسالة، وإلا فإن الإمام الحسين (ع) كان عبر عن موقفه الإصلاحي منذ أن تسلم يزيد الحكم وقبل أن تكون حادثة عاشوراء الأليمة، والإمام الحسين (ع) لم يضطر إلى المواجهة العسكرية إلا بسبب المساس بالقيم الرسالية، وحينها لا بد من قول كلمة الحق. ولهذا قال الإمام الحسين (ع): «أيّها الناسَ، إنّ رسولَ الله قال: مَن رأى منكُم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم اللَّهِ، ناكثاً بعَهدِهِ، مخالفاً لسنّة رسولِ الله، يعملُ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغرْ عليهِ بقولٍ ولا بِفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِلَه مَدخَلَه. وقد علمتمُ أنَّ هؤلاء القومَ قد لزِموا طاعة الشيطانِ وتولّوا عن طاعةِ الرحمن، وأظهَروا الفسادَ وعطَّلوا الحدودَ واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرامَ الله وحرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمرِ) .
ولا أعلم كيف يفهم هؤلاء ثورة أبي عبد الله الحسين (ع)! هل يمكن أن نستبدل قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسكوت عن المعروف والنهي عن المنكر! هل يمكن أن نستبدل قيمة عدم الركون إلى الظالمين بالركون إليهم! هل يمكن أن تتغير قيمة الأمر بالعدل في يوم من الأيام إلى مباركة الظلم وإضفاء الشرعية على مواقف الظالمين!
ولهذا نقول: إن هوية المذهب قامت على قيم النهضة الحسينية، والتي هي جوهر الرسالات الإلهية وخلاصة حركة الأنبياء، ولا يمكن في يوم من الأيام أن تتحول هذه القيم إلى حالة استثنائية!
أقرأ ايضاً
- تكامل ادوار النهضة الحسينية
- النوايا الحسنة للعتبة الحسينية المقدسة
- الرسالة المحمدية تتألق في القضية الحسينية