
لعبت الاقدار بحياة طفل صغير وتلاطمت عليه امواج البلاء وهو لا حول ولا قوة له، ولد من اب "مصري الجنسية" وام عراقية في محافظة صلاح الدين، لم يبلغ السادسة من العمر حتى توفت والدته ولحقها بمدة قصيرة والده، لتأخذه عائلة لمدة من الزمن لم تصدر له وثيقة رسمية تثبت شخصيته ولا دخل الى المدرسة، وماهي الا مدة قصير حتى صفعته الدنيا بمصائبها، فتوفى رب العائلة التي آوته فعاد الى الضياع مرة اخرى، وجاؤوا به الى بغداد هذه المرة ليسكن عند اخيه الاكبر منه سنا وهو بعمر العاشرة، فيدق المصير المجهول اسفينا بينه وبين الامان والسكن والحياة المطمئنة، فيقتل شقيقه، وتأخذه عائلة من الجيران لتربيه، وتبقى امواج الاقدار تتلقفه حتى وصل الى بر الامان عندما تلقته ايدي الرحمة في "دار الوارث للايواء والتأهيل المجتمعي" في هيئة الصحة والتعليم الطبي التابعة للعتبة الحسينية المقدسة.
وفيات وظلمات
جلس الصبي " علي سعيد عبد الغني عبد المقصود" مفتخرا بانتسابه الى الدار التي صنعت منه رجلا بعد ان عانى من ظلمات العيش في مهاوي المجهول وهو يقول لوكالة نون الخبرية ان" دخوله الى الدار كان في ايلول من العام (2021)، بعد ان توفت والدته العراقية بجلطة دماغية في العام (2015)، ولحقها بعد أشهر قليلة والده "مصري الجنسية" وتوفى ايضا بجلطة، الذي عاش في مدينة سامراء ردحا من الزمن وولد له ابنائه في هذه المدينة، وبعدها سكنت العائلة في قضاء بيجي بمحافظة صلاح الدين، حيث كان والده عاملا في معمل لصنع الثلج ووالدته ربة بيت، ولديه اخ واحد واخت واحدة، وبعد ان رحل الابوان لم يبقى لهم احد، وكان عمره حينها لا يتعدى (6) سنوات واخواه اكبر منه عمرا، فأسكنهم احد اقاربهم عنده في دارهم، ولا يمتلك "علي" اي وثيقة رسمية "هوية احوال مدنية او شهادة جنسية او بطاقة سكن او جواز سفر" ولم يتم تسجيله في المدرسة، وفي العام (2019) توفى اقاربنا الذي آوانا في بيته، فضاقت بالطفل الامور مرت اخرى، وعند بلوغه العاشرة من العمر قصد بيت اخيه الذي يكبره بعد ان تزوج وترك بيت اقاربه وعاش في دار بمفرده، وبقي عنده لمدة لا تتعدى سنتين، وجاء اجل الاخ الاكبر عندما حصلت له مشاجرة مع شخص واطلق عليه النار فتوفى بالحال، واضطرت عائلة لإيوائه بشكل مؤقت وحاولوا ان يصدروا له وثائق رسمية لكنهم عجزوا، فتصدت احدى منظمات المجتمع المدني الخيرية التي زارته الى البيت واقترحت على اقاربه ارساله الى دار الايواء التابع للعتبة الحسينية المقدسة، وكان "علي" رافضا لذلك المقترح ظنا منه انه سيودع في "سجن للأحداث"، ولكن اعضاء المنظمة اوضحوا لي طبيعة عمل الدار والخدمات المقدمة به والرعاية الانسانية والجهة التي يتبع لها، فوافق على المقترح وجاؤوا به في العام (2021) الى "دار الوارث للايواء والتأهيل المجتمعي".
وثيقة ومدرسة
وعن رحلته الجديدة التي نقلته من مهالك الضياع الى الحياة الكريمة والتي خلقت منه عنصرا فاعلا له مستقبلا يتحدث "علي" باعتزاز قائلا" وصلت الى الدار قادما من محافظة صلاح الدين، وانا مبهم المصير فلا أحمل وثائق رسمية تثبت شخصيتي ولا اقرأ ولا اكتب ولم انتظم بالدراسة الابتدائية، ولا اعرف احدا في محافظة كربلاء المقدسة، واول خطوة جعلتني اطمئن هي تكفل الدار باصدار البطاقة الموحدة لي التي جعلتني مواطنا عراقيا مثبتا في السجلات الرسمية، ورغم بلوغي سن (13) سنة وتركي للدراسة لمدة (7) سنوات، الا ان الدار قامت بتسجيلي في احدى المدارس الابتدائية لأباشر بالدراسة في الصف الاول الابتدائي، ولم تكن لي الرغبة بالدراسة لكن حرص ادارة الدار على الاهتمام بالدراسة وفتح صفوف دراسية في الدار بادارة مدرسين متخصصين تراجع للطلبة دروسهم في محاضرات يومية اليومية وتحضيرات الدروس والامتحانات جعلتني احرص على التفوق والنجاح، حتى وصلت حاليا الى الصف السادس الابتدائي، بعد رعاية كبيرة قدمها لي الدار والعاملين فيه، وفي مقدمتها مكان العيش، والسكن اللائق، والمأكل، والملبس، والنظافة، والرعاية الصحية، والعطف والتعامل الانساني، والرعاية التربوية، كما عمدت ادارة الدار الى تنمية مواهبنا وادخلتني مع رفاقي في الدار في دورات تعليمية لتعلم عدد من المهن مثل الحلاقة، والخياطة، والحاسوب، وارسالنا الى اكاديمية العميد لتعلم كرة القدم، وكذلك تخرجت من دورة اعداد الممثل وحصلت على شهادة بها، وشاركت في عدد من الاعمال المسرحية مع فرقة المسرح المعاصر ومنها مسرحية قيامة الارض، وتعلقت بمهنة الخياطة واتقنتها واصبحت اخيط الملابس والشراشف وغيرها، واستطيع تدريب الآخرين على تلك المهنة".
علم وعمل وترتيب
علمتنا الدار على النظام والترتيب والعمل المتقن والانتظام هكذا يصف "علي" ما يفعله في حياته اليومية بالدار ويضيف قائلا" انهض من الصباح فارتب سريري واغتسل وانظف اسناني واتناول فطوري مع زملائي في الدار وابدأ بتحضير واجباتي ودروسي اليومية كون دوامي مسائي في المدرسة، واذا اكملت دروسي امارس النشاطات الرياضية في قاعة الحديد او ساحة كرة القدم الموجودتان في الدار، او ممارسة هواية الرسم في المرسم، وبعد الثانية عشرة ظهرا اسلم هاتفي النقال الى الدار واذهب الى المدرسة ثم اعود منها في الرابعة عصرا واتناول طعامي وارتاح لمدة، ثم اتسلم هاتفي النقال للتصفح لساعات محدودة حسب ضوابط الدار، الى موعد صلاة المغرب فنقوم بتسليم الهواتف النقالة ونصلي ثم نتناول طعام العشاء، ثم نعود لتحضير ما يطلب مني في المدرسة من دروس وتنفيذ اي واجب اكلف به في الدار، على العكس مما كنت افعله في البيوت التي آوتني حيث كنت معطلا من جميع الجوانب".
سفرات ونشاطات
ولكي تكتمل الحياة التي يمارسها الانسان في بلدنا تتكفل الدار بتنظيم مجموعة من السفرات والنشاطات لهم يقول عنها" ان كل ما يقدم لنا في الدار مجاني، ومنها تنظم لنا الدار في العطل الرسمية او العطلتين الدراسيتين الصيفية والشتوية سفرات الى المتنزهات السياحية او مدن الزائرين او زيارة المراقد المقدسة في بغداد والنجف الاشرف، ويأخذوننا الى المسابح لممارسة رياضة السباحة، وبعد ان كنت اعيش وحيدا معزولا في بيوت عدة، اصبح لي "اخوة" في الدار اعيش معهم كعائلة واحدة، كما تكونت عندي صداقات مع زملاء الدراسة في مدرستي اتواصل معهم يوميا، ورسمت لنا العتبة الحسينية المقدسة طريق النجاح والنجاة حيث تصر على تميزنا بالدراسة والاصرار على النجاح واكمال الدراسة الابتدائية والمتوسطة والاعدادية والالتحاق بالجامعة وتوفير فرص عمل لنا لنبدأ حياتنا الجديدة رجال ربتهم على ايدي باحثين انسانيين رحماء بنا، ومن بين الخدمات المقدمة هي الرعاية الطبية التي تتكفل بها لجنة طبية متخصصة تنقل المريض منا الى مستشفى الامام زين العابدين (عليه السلام) الجراحي ويخضع لفحص وعناية كبيرة، وتستمر المتابعة للمريض وعلاجه وتطور حالته لحين شفائه، وامنيتي ان اصبح "باحث اجتماعي" لحبي لهذه المهنة الانسانية التي تعالج المستفيد جعلتني رجلا منتجا ومتميزا في الدراسة والحياة، واعتبر ان الله سبحانه وتعالى كتب لي "حياة جديدة" في هذه الدار بعد ظروف عصيبة عشتها في طفولتي".
ايادي الرحمة
من وسط الايادي الرحمة يتصدى الباحث الاجتماعي "مهدي صلاح مرزا" للحديث عن قصة الصبي "علي" لوكالة نون الخبرية بالقول انه" دخل الى الدار في العام (2021) عن طريق مناشدة وردتنا من احدى منظمات المجتمع المدني، وتبين انه يتيم الابوين الذين توفيا خلال مدة قصيرة جدا، انتقل للعيش من محافظة صلاح الدين مع عائلة اخيه في العاصمة الذي فقد حياته هو الآخر في مشاجرة، وبقي عند بيت جيرانهم الذي يصفهم "علي" بأقاربه، ولكون العائلة من بين افرادها بنات ونساء بات من الصعوبة ابقائه عندهم، وبعد المناشدة على الفور استقبلناه في الدار بعد اجراء الفحص الطبي المتكامل لبدنه في المستشفيات المتخصصة في العتبة الحسينية المقدسة، وتبين ان لديه فرط في هورمونات السمنة تحتاج الى اخضاعه الى علاج لمدة من الزمن وما زال يخضع له، كما اتضح انه لديه "خلع ولادي" في كتفه الايمن، ولا يمكن ان يتم معالجته الا بعد تخفيف الوزن وتجاوزه سن الثامنة عشرة من العمر، وبعد التحري عنه تبين ان والده المتوفي "مصري الجنسية" ولا يملك اي مستمسكات ثبوتية، فقامت اللجنة القانونية بتوجيه من مسؤول الدار الحقوقي "حسين النصراوي" باصدار البطاقة الموحدة له من الدوار الحكومية المعنية، كما تعاونت معنا مديرية تربية كربلاء المقدسة مشكورة بموافقتها على تسجيله في التعليم المسرع كون عمره تجاوز (14) عاما، وبهذا تمكنا من نقل "علي" من حال مزري ووضع نفسي منهار ومؤلم كونه فاقد للاب والام ولأي احد يقدم له الرعاية والعناية والحماية، الى حال طبيعي افضل، من خلال النظام الصحي والتغذية الصحية المتكاملة والرعاية الانسانية والتعليم والتربية، وكسرنا الحاجز النفسي الذي كان يتخوف منه كونه من محافظة صلاح الدين وجاء الى كربلاء المقدسة وخشيته من الاختلاف في العادات او التقاليد او الطقوس الدينية، وبعد شهر واحد فقط وبجهود وبرامج الباحثين والمربين في الدار وبركات الامام الحسين (عليه السلام)، اصبح "علي سعيد" من المتميزين بالدراسة واشترك بورش عدة لتعلم المهن واستثمرها في تعلم التمثيل والمسرح وشارك في مسرحيات مع العاملين في المسرح المعاصر، وتعلم الخياطة واصبح من الخياطين الجيدين في الدار ونمت مهاراته ليتخطى المرحلة النفسية الحرجة التي كان يعاني منها وباشرنا ببناء انسان جديد، وبناء على توجيهات المتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة الشيخ " عبد المهدي الكربلائي" الذي يوصي دائما بالتعليم داخل الدار اوصلناه الى السادس الابتدائي وسينال الشهادة التربوية الاولى المعتمدة في العراق".
قاسم الحلفي ــ كربلاء المقدسة
تصوير ــ عمار الخالدي
أقرأ ايضاً
- وقف شامخا.. الشهيد "علي المعموري" وسط البطش والقتل في "سبايكر" وقف يصلي فأذل الدواعش (صور)
- 3 تريليون دينار سنويا لتمريره.. استبعاد سياسي لتعديل "سلم الرواتب"
- فقدوا أمهم وأباهم في شهرين.. ثلاث ايتام رعتهم العتبة الحسينية.. اصغرهم صار لاعب كرة قدم موهوب