
في نهاية شهر رمضان، يبدأ العراقيون باستعادة تقاليد عيد الفطر التي عرفوها منذ عقود طويلة ويجددونها، ويحرصون على أن تزداد تأصلاً، كونها تُحيي الذاكرة المليئة بأسماء أحباب فارقوا الحياة كانوا يمارسونها، وساهموا في استمرارها داخل المجتمع.
قبل أيام من عيد الفطر، انطلقت الاستعدادات له. وتدفع خصوصيات طقوسه إلى تنظيم اللقاءات العائلية والتواصل مع الأقارب، ومع كل عيد تتفتح في الذاكرة صور الأمهات خلال عجنهن الكليجة؛ المعجنات الأشهر عند العراقيين، والتي تعتبر من أبرز رموز العيد، في حين يهتم الآباء بتهيئة ثياب الأطفال، ويتبادل الجيران التهاني عبر أبواب لا تُغلق.
تعدّ صلاة عيد الفطر الفرض الذي يرسّخه الآباء في عقيدة أبنائهم مع زي خاص، إذ يرتدي الأطفال الثوب الأبيض وطاقية الرأس البيضاء المزخرفة بالنقوش، مع رشة عطر ماء الورد التي تُسعد الأطفال حين يتوجهون إلى العتبات المقدسة والمساجد لأداء صلاة العيد. يقول بشار عبد الرسول (69 سنة)، وهو متقاعد، "حبّ طقس صلاة العيد مزروع لدي منذ أن كنت طفلاً حين كان والدي يجهّزني للصلاة، وأرافق أطفال الحي إلى المسجد مرتدياً الزي المعتاد ومتعطراً برائحة ماء الورد. وقد علّمت هذا الطقس لأولادي وبعدهم أحفادي الذين يسيرون اليوم على ذات النهج. إنها لحظات روحانية تمنح القلب سلاماً خاصاً، وتذكّرنا جميعنا بالفرح رغم ما مررنا به من ظروف صعبة".
قبل أيام من حلول عيد الفطر السعيد، تحوّلت المدن العراقية تدريجاً إلى مشاهد من البهجة والترقب. وغصّت الأسواق بالمتسوقين، وامتلأت البيوت بروائح الكعك والتوابل، ودارت الأحاديث حول خطط الزيارات والهدايا وصلاة العيد. في معظم البيوت حُضّرت كليجة العيد، وذلك قبل يومين أو ثلاثة من حلوله، وهي جزء لا يتجزأ من تقاليد عيد الفطر من خلال رائحتها الزكية وحشواتها المتنوعة.
تقول سهيلة علي (27 سنة)، وهي موظفة، "ليس تحضير الكليجة مجرد عملية طهي، بل مناسبة عائلية في حدّ ذاتها". نجتمع مع الأخوات ونبدأ العمل. نجهّز العجين ونحشو الكليجة بالجوز أو التمر أو جوز الهند، ونتبادل الأحاديث والضحكات. وفي كل مرة نعدّ فيها الكليجة نتذكر والدتي رحمها الله التي كانت دقيقة جداً في عملها، وتصرّ على أن تكون القطع متناسقة كي تُعجب الضيوف في العيد. نحاول اليوم أن نحافظ على هذا التراث بنفس طريقة والدتي على صعيد الحماس والحب".
وشهدت الأسواق الكبيرة المخصصة للتبضع بالجملة والمفرد خلال الأيام العشرة الأخيرة من رمضان ازدحاماً ملحوظاً، خصوصاً في الأيام الثلاثة الأخيرة، وتجوّلت العائلات لشراء الملابس والألعاب والهدايا ومواد الزينة والمواد الغذائية المرتبطة بالعيد.
ويلفت منتظر عبد العظيم (49 سنة)، وهو مدرس، إلى أن "الناس يحاولون رغم ارتفاع الأسعار أن يشتروا لأطفالهم ما يفرحهم، وقد يقتصر الأمر على قطعة واحدة فقط، لكنها تكفل بزرع البهجة في قلوبهم. لا يجب أن يكون العيد مكلفاً بالضرورة، بل أن يكون الشخص صادقاً في شعوره". يضيف: "هدايا عيد الفطر طقس لا يمكن أن نهمله. فرح الزوجة والأولاد بالهدايا يبهج كل ربّ أسرة، يعيد لي الشعور حين كنت طفلاً وأتلقى هدية العيد من والداي، وهذا الشعور لا يوصف".
ولا تزال عادة العيدية المحببة حاضرة بقوة في المجتمع العراقي، إذ يتلقى الأطفال مبلغاً من المال من الآباء والأقارب. وعن الشعور بالحصول على العيدية تقول جنى نزار (12 سنة): "إنه أحب طقس لدي. أرتدي منذ صباح أول يوم العيد ملابس جديدة، وأستعد للحصول على العيديات التي تكون مبلغاً كبيراً من والدي وجدي وأعمامي وأخوالي وأقاربي الذين يزوروننا أو نذهب لزيارتهم".
وتقول مريم حيدر (26 سنة)، وهي طالبة دراسات عليا "كنا خلال طفولتنا ننتظر العيدية بفارغ الصبر، واليوم، رغم أننا كبرنا، لا تزال العيدية تعبّر عن الحب والاهتمام، حتى إذا كانت رمزية. أتلقى العيدية حتى اليوم من والدي وإخوتي الأكبر مني وأعمامي لأنني ما أزال عزباء".
وإلى جانب كون عيد الفطر مناسبة دينية في العراق، هو أيضاً مساحة زمنية تُعيد جمع ما فرّقته مشاغل الحياة، وتمنح العائلات فسحة من الود والتجديد. ويعدّ الاجتماع العائلي ركناً أساسياً من أركانه، ورغم التغيّرات في أنماط الحياة، يجتمع أفراد الأسرة في بيت الجد أو أحد كبار العائلة، ويتبادلون التهاني ويتناولون الأطباق التقليدية.
ويصف جمال عبد الله (53 سنة)، وهو مهندس ميكانيك، العيد عند العراقيين بأنه "مناسبة لاستعادة الصلات العائلية التي قد تضعف في زحمة الحياة. حين نجتمع نستعيد الذكريات ونتبادل المحبة الصافية ونتصالح مع من خاصمناهم".
ولا بدّ من الزينة في العيد، فالبيوت يجب أن تظهر سعيدة وترحب بالآخرين وتستقبل العيد بحبّ وتفاؤل، ورغم التطور المستمر الذي تشهده أشكال وأنواع الزينة بخلاف ما كانت عليه قبل عقود حين كانت تصنع من الورق الملون والبالونات، وتحوّلها إلى نشرات ضوئية بأشكال مختلفة، لكن هدفها "يبقى واحداً وهو نشر البهجة"، بحسب ما تقول فردوس رجب (52 سنة) وتضيف: "أكرر ما كنت أفعله حين كنت طفلة صغيرة عبر تزيين البيت، وأدعو أولادي إلى تعليق الزينة في الشارع أمام المنزلي. إنه طقس جماعي للفرح".
ولا تزال العادة زيارة العراقيين قبور أحبائهم من الأموات قائمة في أيام العيد، وهم يحرصون على أدائها، ويذكر الباحث الاجتماعي رسول حسين، أن "التحولات الاجتماعية انعكست على شكل العيد لدى العراقيين، لكن الأبعاد العاطفية بقيت كما هي. تُجسّد زيارة المقابر في العيد طقساً وجدانياً يعمّق ترابط المجتمع مع ذاكرته الجماعية، وقد جعلت الحروب والمآسي التي عصفت بالعراقيين، خصوصاً فقدان الشباب والأطفال، هذا الطقس أكثر حضوراً وتأثيراً، فهو يُعيد الاعتبار للألم الجماعي، ويمنح العيد طابعاً إنسانياً مفعماً بالحنين والوفاء".
أقرأ ايضاً
- تاريخ الأمكنة في كربلاء.. سوق باب السلالمة ذكريات يتوارثها الأبناء من الآباء (فيديو)
- مواطن سوري استقبل (137) عائلة :فرحة اللبنانيين بمساعدات العتبة الحسينية كفرحة الطفل بهدية يوم العيد (فيديو)
- الطاقة الشمسية تعيد إحياء بوادي العراق