- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
شروط إنجاح إستراتيجية مكافحة الفساد
د. أحمد عبد الرزاق شكارة
تستند شروط إنجاح أستراتيجية مكافحة الفساد على عدة عوامل ومرتكزات لعل في المقدمة منها تأتي الضرورة القصوى لإستعادة ثقة المواطن بالنظام السياسي التي وصلت لحدود الهشاشة والضعف لدرجة آخذة بالمزيد كلما تصاعدت التأثيرات السياسية السلبية على المجتمع والدولة العراقية كنتيجة طبيعية لأنتشار ظاهرة الفساد على الصعيد الستراتيجي التي أضحت جزءا من مايمكن أعتباره "ثقافة الفساد".
علما أن عبارة ثقافة لها أبعاد قيمية - أخلاقية ومظاهر سلوكية حضارية إيجابية تعنى عمليات التغيير والاصلاح الحقيقي حيث تمتزج مع افكار وسلوكيات الارتقاء بنوع ومستوى حياة الشعوب إتساقا مع مكافحة جذرية للفساد بكل صوره وابعاده .
ترتيبا على ذلك ، من دون رؤية واضحة ومواجهة إستراتيجية جادة شاملة مخطط لها على مختلف الصعد الرسمية وغير الرسمية ضد المحاصصة والفساد من المتوقع أن نشهد إستمرار تنامي وتعمق مسارات الفساد وتغلغلها في جسد الدولة العراقية مايضعف كثيرا كيان الدولة ودورها الفاعل اقليميا ودوليا. لعل من أبرز سمات منظومة الفساد كونها مركبة معقدة تتداخل إستراتيجيا في تفاصيل متنوعة من ملفات حياتنا العامة (الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية وغيرها) عبر مساحة واسعة للتفاعل مع القوى الفاعلة في المحيطين الداخلي والخارجي.
إن المعادلة المتوازنة نسبيا لتحجيم الفساد في أضيق صوره وابعاده تعتمد على ضرورة امتلاك الارادة السياسية الحازمة التي تنمي مشاعر الاعتزاز بالمواطنة الحقة التي تمنح الجميع فرص متكأفئة لإقامة مشروعات حقيقية للاستثمار وللتنمية الانسانية المستدامة.
مسألة مضمونها يرتبط اساسا بكم ونوع وكيفية وصول وتوزيع الخدمات الانسانية للمواطنين جميعا دون تمييز تدار من قبل الجهاز الحكومي وفقا لإدارة رشيدة تلبي أبسط الاحتياجات الانسانية التنموية بعيدا عن المحاصصة المقيتة أو سوء الادارة المنتج للفساد. ضمن هذا التصور فإن المنظور الاساسي الذي أود مناقشته يتمحور حول شروط نجاح إدارة السلطات الاربع في الدولة (تشريعية – برلمانية ، تنفيذية – وزارية ورئاسية، قضائية وإعلامية) لملف المجابهة الشاملة لتحديات الفساد في بعدها الستراتيجي (خاصة السياسي - الاداري والاقتصادي – المالي) . ترتيبا على الاولوية المعطاة لبناء مؤسسات الدولة الرصينة وللمحاسبة وللرقابة القضائية الحازمة مستندة إلى الحوكمة الصالحة Good Governance بعيدا عن ضعف الدولة التي من سماتها عدم توافر الامن والامان وتنامي المحاصصة التي تخدم مصالح فئوية للافراد وللجماعات المتنفذة أو «المحتكرة للسلطة ، للقوة وللثروة»على حساب المصلحة الوطنية العراقية.
الامر الذي يقتضي أن تتمتع القيادة السياسية بإرادة حكيمة فاعلة وحازمة ومن صفاتها المميزة الاخرى النزاهة والامانة الاخلاقية ممتزجة بروح الاستقلالية والكفاءة الادارية – السياسية . أما هدفها فهو رسم واضح لتفاصيل عملية الاصلاح البنيوي “الهيكلي” لإدارات ومؤسسات الدولة إستجابة لمقتضيات التنمية الانسانية المستدامة بحدود 2035.
ترتيبا على ما تقدم لابد للقيادة السياسية للسيد محمد شياع السوداني من الالتجاء للآليات والادوات والامكانات المناسبة بشريا وماديا لترجمة الخطط الستراتيجية إلى سياسات إجرائية - تتم وفقا لمديات زمنية محددة - على رأسها تأسيس مؤسسات قضائية مستقلة من ابرزها "محكمة جنائية عراقية عليا ضد الفساد" إضافة للهيئة العليا لمكافحة الفساد والهيئات برلمانية للنزاهة في مختلف محافظات العراق بضمنها ولاشك العاصمة.
محكمة يقوم على إدارتها وتطبيق إجراءاتها القانونية العادلة نخب من حكام وقضاة يتسمون بأعلى صفات الاستقلالية – الحيدة والكفاءة العدلية مع الالتزام بحقوق الانسان بقصد المحاسبة الدقيقة لجرائم الفساد الاداري – الاقتصادي والمالي إنطلاقا من المستويات الدنيا (الرشوة ، المحسوبية وغيرها) إلى العليا "الكبرى" متمثلة بإهدار اموال الدولة بل وخيانة الامانة التي تعد من الجرائم الكبرىالتي لاتهاون فيها اطلاقا سواءا للجاني أم للاموال المهربة او التي تختفي من خزينة الدولة بصورة دراماتيكية.
إن تشريع قانون شامل لمكافحة الفساد اضحى مسالة لابد منها لإنجاح مساعي مكافحة الفساد . من هنا تأتي أهمية تسليط الاضواء المستمرة على وقائع الفساد الكبرى بغية كشفها أو متابعتها أستخباريا وإعلاميا إعتمادا على معلومات وشواهد دقيقة ظاهرة تنمي الوعي العام بخطورة ما يتعرض له العراق من جرائم وخروقات للقوانين . لعل من نماذج صفقات الفساد المتعددة على سبيل المثال وليس الحصر ما يعرف بصفقة القرن وغيرها من خروقات للنظام القانوني - القضائي للدولة جاوزت قيمها ترليونات الدولارات التي يمكن إن توظف حال استرجاعها إلى خزينة الدولة لخدمة العراق بخاصة الفئات الفقيرة والمحرومة بل وحتى والطبقة الوسطى المعول عليها في بناء الاقتصاد الوطني بهدف تحسين مستوى ونوعية الحياة الاجتماعية – الاقتصادية في ظل دور حيوي منتج للقطاع الخاص. ملفات أخرى يمكن الاشارة إلى بعض منها تعد بمثابة الجزء الظاهر من جبل الجليد منها ما يلي :-
ملف سرقة النفط العراقي وتهريبه إلى خارج البلاد.
ملف سرقة الضرائب والتأمينات الجمركية.
ملف إهدار أموال العراق (من عملة الدولار الصعبة) حيث تصل معلومات بحاجة للمزيد من التدقيق عن ادوار سلبية للمصارف العراقية الحكومية والاهلية في إطار مايعرف بمزاد العملة للبنك المركزي الامرالذي انعكس سلبا على المستوى المعاشي للفئات الفقيرة التي وصلت لحدود الفقر المدقع بحدود (1.90 دولار يوميا).
أزمة ملف التعاقدات الحكومية والخاصة والذي تم من خلاله إهدار أموال ضخمة لإسباب متعددة منها تلكؤ اقامة المشاريع أو الفساد وسوء الادارة.
ملف الفساد في الممتلكات العقارية التي ارتفعت قيمها بصورة غير طبيعية عبر صفقات مشبوهة أو تقع خارج الاحتكام للقوانين العراقية اوبعيدة عن الشفافية والمحاسبة القانونية الحازمة .
ملف تهريب الاموال العراقية للخارج حيث أن ما ينيف عن 150 مليار دولاروفقا لتصريح رئيس الجمهورية السابق الدكتور برهم صالح - نشر في عام 2021 - قد تم تهريبها لخارج البلاد منذ 2003 . ترتيبا على ذلك قدم رئيس الجمهورية مشروع قانون للبرلمان عنوانه :”استرداد عائدات الفساد” مسالة بحاجة ماسة لمصادقة البرلمان عليها في اقرب فرصة ممكنة كي يحاسب المفسدون وتستعاد الاموال المهربة . علما بإن تقديرات أخرى تشير إلى ارقام أكبر ، إذ وفقا للجنة النزاهة النيابية هرب بعض الفاسدين الكبار اموالا تصل إلى نحو 350 مليار دولار منذ 2003 إلى 2021 ما يعادل 32% من ايرادات العراق. ..
ضمن هذا السياق يمكننا القول بإن ومع كل أتساع في دائرة الفساد نلحظ أن حجم قيم الخسائر المالية أتسع كثيرا نظرا لإنحراف واضح في سلوكيات بعض الموظفين الحكوميين بعيدا عن مسارالالتزام بالمسؤولية الوطنية التي تقتضي الحفاظ على قيم وأخلاقيات النظام الديمقراطي بمعناه ومضمونه الحقيقي السليم .
من هنا لابد من فضح ومحاسبة التوجهات البعيدة عن إحترام القانون والقضاء خاصة ما يعرف بممارسات "الدولة العميقة" التي يجد من يمثلها ملذات آمنة ليس فقط من خلال امتلاك السلاح المنفلت بل ومن الاموال المهربة إلى خارج البلاد بصورة ممتلكات وعقارات أواستثمارات مالية في مناطق حرة اجنبية بعيدة عن المراقبة والمحاسبة الدولية المشددة .
هذا ومن المناسب الاشارة إلى انه وبالنظر لطبيعة نموذج الفساد المستشري وشكله الاجتماعي متعدد الاطراف فإن المسألة الخاصة بظاهرة الفساد ــ مايعرف الزبائنية المجتمعية – السلطوية المتحكمة بالمال وبالقوة والموارد سواءا من خلال أدوار الافراد ، الجماعات والاحزاب اضحت أمرا طبيعيا بعيداعن اساليب الحوكمة السياسية - المالية القانونية الدقيقة.
ترتيبا على ما تقدم لابد من المعالجة والتفعيل لإجهزة الدولة المختصة في مكافحة الجريمة المنظمة التي تتداخل في تقصيلاتها مع جرائم الفساد المالي بضمنها تصاعد حجم أزمة المخدرات عبر الحدود الاقليمية للعراقوالتي بدأت حكومة السوداني بالنظرإليها بجدية مرحب بها .
أخيرا من الاجراءات الفاعلة لتحجيم الفساد تأكيد تفعيل آليات الحوكمة والمحاسبة القانونية من خلال تطبيق يمتد إلى شبكة واسعة للاتمتة الرقمية الحديثة تغطي مختلف القطاعات الاقتصادية – المالية الحكومية هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يفترض أن يتجه العراق سريعا لتطبيق بكفاءة عالية كافة بنود الستراتيجية الوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد بكل تفصيلاتها المعلنة في عام 2022 تعزيزا لدور العراق المعلن في الالتزام الصارم بأتفاقية الامم المتحدة لمحاربة الفساد التي أنضم العراق إليها في عام 2007 باعتبارها الصك العالمي الوحيد الملزم قانونيا.
إن أرتقاء العراق لمراكزمتقدمة في مكافحة الفساد في إطار منظمة الشفافية العالمية وغيرها من موسسات دولية تتمتع بسمعة قانونية – قضائية عالمية رصينة يعتمد على مدى النجاح في إنجاز المحاسبة القانونية الصارمة ضد كبار الفاسدين خاصة حيتان الفساد ، الامر الذي يستوجب الاستفادة من تجارب الدول التي حققت نتائج ناجحة في محاربة الفساد من نماذجها (ماليزيا ، سنغافورة ، نيوزلندة ، استراليا والدول الاسكندنافية وغيرها).
علما بإن لبعض الدول العربية تجاربها الناجحة والمهمة ومنها على سبيل المثال وليس الحصر المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة والكويت والمملكة الاردنية الهاشمية وغيرها.
أقرأ ايضاً
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- "مكافحة الشذوذ" صدر فهل سيطبّق
- كيف حارب السنغافوريون الفساد؟