حجم النص
لا شكَّ في أنَّ العملَ بمبدأ التداول السلمي للسلطات يشكل مهيمنة وضرورة في البلدان التي تتبنى العمل بمبدأ الديمقراطية والتعددية الحزبية، من أجل الحفاظ على المكتسبات كحق مشروع إسهاماً في بناء الدولة ومؤسساتها، وضرورةً تسهم في تعزيز المشاركة والمساواة بين الأطراف السياسية جميعاً، يعمل على حلِّ وإنهاء الأزمات التي تعصف بين مكونات العمل السياسي في حالِ بُنيت العملية برمتها على التعددية الحزبية واحترام الانتخابات، ونظراً لأهمية هذا المبدأ فقد أقام مركز المستقبل للدراسات والبحوث وبالتعاون مع مؤسسة النبأ للثقافة والأعلام ندوةً تحت عنوان (التداول السلمي للسلطات.. رؤية فلسفية وسياسية) بقصد التناول العلمي لهذا المفهوم وفق المعطيات الراهنة للعملية السياسية في العراق، في قاعة مركز المستقبل للدراسات والبحوث .
الندوة استهدفت التعريف الدقيق بمفهوم التداول السلمي للسلطات على الصعيدين القانوني وحضرها نخبة من قادة الرأي في المجتمع المدني والأكاديمي .
استهل الندوة الأستاذ لطيف القصاب بكلمة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث تناول فيها حالة التأزم في المشهد السياسي العراقي محاولاً فيها التعريف بالأسباب التي أدت إلى شيوع ظاهرتي (التناحر والتخوين) في عمل موازين القوى السياسية داخل العراق قديما وحديثاً فقال: (إن من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور التناحر والتخوين كمقياس لعمل القوى السياسية تكمن في عدم وجود آليات قانونية فاعلة تضمن التداول السلمي للسلطات بين جميع الفرقاء السياسيين...).
القصاب استعرض خلال حديثه السيرة السياسية للعراق والأزمات التي مرَّ بها من منظور تأريخي مشخصاً ثلاث حقب تعدُّ هي الأهم من بين ما عاشه العراق، وهي: العهد الملكي والعهد الجمهوري منتهياً بمرحلة ما بعد التغيير، حيث قال: (على الرغم من أن البعض يعدُّ فترة العهد الملكي فترةً ذهبيةً في تاريخ العراق السياسي إلا أن نزعة التآمر هي التي كانت تبعثُ الحياة في الروح السياسية آنذاك، لا نزعة الأيمان في حل الأزمات سلمياً...، كذلك كان الحال في (العهد الجمهوري الذي يمكن اختصاره بالانقلاب والانقلاب المضاد...)، أما في حديثه عن مرحلة ما بعد التغيير فقد وسم (القصاب) مبدأ التداول السلمي للسلطة فيها بـ (الشبحي) عندما قال: (إن مفهوم التداول السلمي للسلطة في هذه المرحلة لم يتغير في الوعي السياسي لأنه لا يزال مصطلحاً شبحياً لا يبرز في الأحداث إلا في مواسم الانتخابات...).
بعدها تقدم أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد الدكتور أحمد عبد الأمير خضير الأنباري بكلمةٍ بيّن فيها ماهية مبدأ التداول السلمي للسلطة، والتعريف بالحاجة إليه وبيان أهميته، حيث قال: (هو العملية التي تشير إلى ممارسة السلطة وتوفير متطلباتها، والتي يأتي في مقدمتها تحديد أعلى نسبة في نتائج الانتخابات)، منتقلاً بعدها للحديث عن أهمية الانتخابات في احلال هذا المبدأ قائلاً: (فالانتخابات تسهم في تقديم حلولاً أكثر سلمية للقضايا بالنسبة للأطراف المتنافسة على السلطة، كونها ستحدد الأشخاص الذين سيحكمون، وهوية الحاكمين أو الماسكين بالسلطة، هي أيضا تسهم في إضفاء شرعية على الأداء والقرارات لأنها تمثل الأداة الكاشفة بمن وضِعت الثقة به، وبمن أنابوه رعاية مصالحهم وإدارة تطلعاتهم)، خُلص (الأنباري) في مقدمته عن التداول السلمي للسلطة، إلى أن الانتخابات هي بوصلة تشير إلى من هو مؤهل بالحكم بالنسبة للأطراف الأخرى وفقاً لنتائجها يتم الإقرار من قبل القوى السياسية للفائز بها في أحقيته بالحكم.
الأنباري حدد متطلبات العمل بهذا المبدأ عبر إيراده لمحددات ثلاث، وجودها يعني وجوده لخصها بـ(ـوجود نص دستوري، مع وعي بأهمية هذا المبدأ من قبل القوى السياسية، ورغبة حقيقية للعمل بموجبه)، وبذلك صار الدستور هو الضامن الحقيقي للتداول السلمي على السلطة بعد أن وضح أن هناك ثلاثة مواضع دستورية وجد فيها الإشارة إلى هذا المبدأ، مبيناً (أن الماسكين بالسلطة لا يمتلكون هذا المبدأ وإنما لهم الحقُّ في ممارسته، وأن توالي العمل بهذا المبدأ من قبل كتلة سياسية فائزة بالانتخابات لا يضرُّ به كما يحدث في حال توالي شخص على السلطة)، مفرقاً بذلك بين مبدأ التداول السلمي للسلطة وبين ولاية رئاسة الوزراء.
إلى ذلك تداخل الدكتور ضياء عبد الله عبود التدريسي في كلية القانون جامعة كربلاء طارحا مجموعة من الأسئلة بعد مقدمة استهل فيها الحديث عن أهمية مبدأ التداول السلمي للسلطة ليس في الدستور العراقي فحسب، وانما في الدساتير العالمية أيضا، خصوصاً بالنسبة للدول التي تنتهج الديمقراطية مبدأ في تسيير شؤونها قال: (أن لا مشكلة لدينا دستورياً مع مبدأ التداول السلمي للسلطة كنص قانوني، المشكلة تكمن في إشكالية العمل بآليات تطبيق هذا المبدأ، شأنه في ذلك شأن الكثير من النصوص الدستورية التي لا زالت لليوم معطلة التطبيق بالرغم من وجودها كنصوص قانونية دستورية)، وختم حديثه بتوجيه أسئلة ثلاث على المحاضر هي: (أيهما نُغلب النص الدستوري، أم الواقع العملي؟، وما هي آليات تفعيل هذا المبدأ على أرض الواقع؟ إذا ما سلمنا أن المشكلة تكمن في التطبيق، وكيف نخلق ثقافة دستورية لدى النخب السياسية على اعتبار أن العمل بهذا المبدأ أيمانا وعقيدة وتطبيقا؟).
من جهته تداخل الدكتور احمد شاكر سلمان الجراح التدريسي في كلية القانون جامعة كربلاء بكلمة أوضح فيها أن الدستور يجعل من الشعب هو مصدر السلطات، وطالما أنه يمتلك هذه السلطات فأن له الحق في منحها لمن يريد، مبدياً رأيه في أن مبدأ التداول السلمي للسلطة هو فكرة سياسية زُجَّ بها في الدستور، وعلينا دائما الركون للشعب باعتباره المصدر الأول للسلطة.
وفي مداخلة للدكتور خالد العرداوي أستاذ العلوم السياسية في جامعة كربلاء اكد أن الإشكالية ومبدأ تداول السلطات يكمن في العقبات، وتأتي المرجعية الدستورية، والتطبيق الحي له في مقدمتها، ضارباً بالفيدرالية -كمبدأ مقرا دستورياً- مثلاً على عدم الالتزام بالنص الدستوري والتعامل معه انتقائيا وفق متطلبات الحاجة، وقد استفسر (العرداوي) عن كيفية التوفيق بين استبدادية الأكثرية وضمان حدود الأقلية، وهل نحتاج إلى تحديد ولاية رئيس الوزراء؟.
بينما عرّج الاستاذ (أحمد علي عمران) الأستاذ الجامعي في الفكر السياسي على أن التحديات الخارجية لها أثر كبير في زعزعة نظام الحكم حتى أنّها أدت إلى حلحلة مفهوم التداول السلمي للسلطة، وأقترح من أجل تعزيز الإيمان الحضاري والتمسك بهذا المبدأ أن يُصار إلى الاهتمام بخلق الوعي لدى المجتمعات بعدها مصدر أول من مصادر التشريع.
فيما استعلم الأستاذ الحقوقي (أحمد جويد) عن مبدأ التداول السلمي للسلطة وعلاقته بمبدأ الفصل بين السلطات، وهل أن التداول ارادة سياسية أم أنه ارادة شعبية؟.
انتهت المداخلات بمداخلة للشيخ (مرتضى معاش) رئيس مؤسسة النبأ للثقافة والإعلام، استفهم من خلالها عن العلاقة بين التداول السلمي للسلطة والشرعية بشكل عام.
ذهب بعدها الأستاذ الدكتور أحمد عبد الأمير خضير الأنباري إلى الإجابة عن الأسئلة، بعد أن أكد التداول السلمي للسلطة هو من أهم ركائز الديمقراطية، وأن من فوائده هو تكريس التجارب السياسية من خلال البرامج المختلفة للقوى السياسية، فيما يخص تحديد مدة ولاية رئيس الوزراء فأنه كان مع تحديد الولاية بعمر زمني، لكنه لم يحدد مدة هذه الولاية، وفيما يخص سلطة الشعب، أجاب (الأنباري) أن الشعب مصدر السلطات وحينما يُدلي بصوته بالانتخابات فأنه قد فوّضَ سلطاته إلى الجهة التي أولاها صوته، وبذلك تنتهي سلطته الأولى التي منحها له الدستور،غير أن الدكتور احمد الجراح كانت له وجهة نظر مغايرة بشأن انتفاء سلطة الناخب مع انتهاء الانتخابات موضحا انه لا نهاية لدور الناخب في مرحلة ما مادام أن الديمقراطية تنص على كون الشعب هو المصدر الأساسي للسلطات جميعها .
التوصيات:
انتهت الندوة بالاتفاق على مجموعة من التوصيات لُخصت بالاتي:
1- إن المطلوب للخلاص من الأزمات السياسية الحالية هو الاتفاق على عقد وطني ملزم يقتضي إتاحة الفرص لتولي القيادات السياسية والإدارية في العراق لجميع المؤهلين بغض النظر عن الانتماءات السياسية والعرقية والدينية.
2- تحديد ولاية رئاسة الوزراء، بعمر زمني موكول إلى تشريع دستوري..
3- أن يكون مبدأ التداول السلمي للسلطة شاملاً لجميع أعضاء الهيئة السياسية الحاكمة ( التشريعية والتنفيذية والقضائيةً ) .
4- تحويل مبدأ التداول السلمي للسلطة إلى ثقافة عامة تعيش بالمجتمع وإدخاله كقيمة مطلقة في حياته اليومية من أجل أن يكون حركة ثورية مستدامة تؤثر في الحياة العامة.
5- وجوب التداول السلمي للسلطة في الأشخاص وليس في الكتل، باعتبار أن ذلك حق دستوري مكفول بنصوصه، برغم اعتراض البعض من المتداخلين على أن العمل بهذه التوصية سيؤدي إلى نشوء دكتاتورية الأغلبية ما يترتب عليه حصر مفهوم التداول السلمي للسلطة في نطاق الكتلة الواحدة بشرط أن تكون هذه الكتلة مؤسسة على الأغلبية السياسية لا العرقية أو الطائفية.
6- ضرورة اعادة النظر بالقانون الانتخابي، والعمل على تعديل بعض الجوانب التي تكفل أن يكون لكل مواطن صوت انتخابي يمنحه لشخص معين، من أجل تدعيم اختيار الناخبين على ترشيح الكتل.
تقرير: نبيل نعمه الجابري
أقرأ ايضاً
- صراع دولي وشبهات فساد.. هل تفشل الاتفاقية العراقية الصينية؟
- المالكي يدفع باتجاه انتخابات مبكرة في العراق
- 400 مليون دولار خسائر الثروة السمكية في العراق