بقلم: القاضي وائل ثابت الطائي
عندما خلق سبحانه وتعالى البشر جعلهم ذكوراً وإناثا ليكمل أحدهما الآخر فتكون المرأة سكناً للرجل ويكون هو لها كذلك، فقال تعالى في محكم كتابه العزيز (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)الروم/21, وفي آية أخرى قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)الأعراف/189, كما أكدت السنة المطهرة على أهمية التزويج في أحاديث معتبرة كثيرة من ذلك قول الرسول (ص) : (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فقد رغب عني)، وفي حديث آخر خاطب رسول الله (ص) الشباب بقوله : (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ورغم أهمية الزواج لكونه يشكل النواة الأولى لبناء المجتمع ومن خلاله يستمر بقاء الأمم إلا إن هذه العلاقة قد تتعرض إلى الهزات ووقوع الخلافات مما يتعذر بقاءها وتظهر الحاجة إلى الانفصال، فيكون الطلاق الوسيلة لتحقيق هذا الغرض.
وقد منحت الشريعة الإسلامية للزوج صلاحية إيقاع الطلاق حصراً، ليس تفضيلاً له على المرأة وليس تعزيزاً له على حسابها، بل لكون الرجل أكثر قدرة على التحكم بعاطفته والسيطرة على رغباته بما منحه الله من ملكات وقدرات تؤهله لمثل هذه الوظيفة، فالطلاق يكون بيد الرجل حصراً وهذا ما دلت عليه الآيات القرآنية المباركة من ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)البقرة/227، وكذلك قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ..............)البقرة/230, وكذلك قوله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ...........) البقرة/236, وقد جاءت الأحاديث الشريفة أكثر دلالةً وصراحةً في إعطاء صلاحية الطلاق للزوج من ذلك الحديث النبوي المشهور في قوله (ص): (الطلاق بيد من أخذ بالساق)، وهكذا الأحاديث الأخرى الكثيرة المعتبرة التي دلت على هذا الحكم.
ومع تسليمنا بهذا الحكم الشرعي لا بد أن نقف لكي نميِّز بين صلاحية إيقاع الطلاق وكيفية إيقاع الطلاق، فمع كون هذه الصلاحية بيد الرجل بشكل حصري إلا إن ذلك لا يمنع من تنظيم استخدامها من خلال وضع الأحكام القانونية التي تنظم كيفية إيقاع الطلاق في ظرفه الزماني والمكاني، وهذه الدعوة لا تُعتبر خروجاً عن أحكام الشريعة ولا مخالفةً بما جاءت به النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة، ولكي نبين ذلك لا بد من بيان المقصود من تنظيم كيفية إيقاع الطلاق، فما هو المقصود من ذلك؟
إن النظرة إحصائية فاحصة ودقيقة لعدد دعاوى الطلاق المنظورة أمام المحاكم يُعطينا مؤشراً واضحاً على الكيفية الخاطئة التي تمارس فيها هذه الصلاحية، ففي جميع محاكم الأحوال الشخصية وأمام أبوابها الواسعة توجد مكاتب المأذون الشرعي يلجأ إليها الزوج بكل سهولة فيُوقع الطلاق وينهي العلاقة الزوجية مع زوجته برضاها أو بدون رضاها وبإرادة منفردة، وقد ساهمت هذه الكيفية في انحلال كثير من الروابط الزوجية لكون التصرف الذي صدر عن الزوج كان مزاجياً وتحت وطأة الغضب أو استجابةً للأهواء والرغبات الشخصية أو اندفاعاً نحو الميول المتنقلة الغير مستقرة دون أن يكون هناك وازعاً في المحافظة على نظام الأسرة وصيانة كيانها من الانحلال حتى لو كانت المشاكل بسيطة والخلافات لا تستدعي مثل هذه النتيجة.
إن بعض قوانين الدول في بلاد المغرب العربي المنظمة لأحكام الأحوال الشخصية جاءت بنص صريح بعدم جواز إيقاع الطلاق خارج المحكمة، ومن هذه القوانين القانون التونسي (مجلة الأحوال الشخصية) في الفصل 30 منه فنص : (لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة)، وقد كان هذا الاتجاه موفقاً إلى حدٍ بعيد لأنه أخضع الطلاق لرقابة القاضي ومنع التعسف في استعمال هذه الصلاحية سعياً منه للمحافظة على رابطة الزوجية واعتبار هذه الرابطة قيمة عليا ينبغي التمسك بها وللحد من خطورة الطلاق وآثاره السلبية على الأسرة وعلى المجتمع، فَعِّبر هذا النص كان تدخل القضاء لرعاية مصالح الزوجين معاً ولتأمين حاجة ضرورية في المحافظة على الكيان الأسري وبذل الجهد اللازم للحيلولة دون وقوع الفرقة ومحاولة جادة لإنقاذ عدد من الزيجات حتى لا تتعرض لكارثة الانفصال.
إن المطالبة بأن يكون إيقاع الطلاق أمام القضاء لا يعني سلب صلاحية الرجل في استخدام هذا الحق الممنوح له بل هي مطالبة لتنظيم كيفية وقوع هذا التصرف بأن يكون أمام أنظار القاضي وداخل قاعة المحكمة بعيداً عن التصرفات الفردية عندما يلجأ الزوج إلى إصدار قراره بإيقاع الطلاق على زوجته بشكل انفرادي.
ويمكن إيجاز الفائدة من منع الطلاق خارج المحكمة وحصره بأن يكون أمام القضاء بالآتي:
1ــ إن الطلاق خارج المحكمة يفوت الفرصة عن اتخاذ الإجراءات الضرورية لتفادي حدوثه، في حين إن حصر الطلاق داخل المحكمة يعزز الجهود التي تبذل من قبل القاضي أو من قبل دائرة البحث الاجتماعي أو من قبل أطراف ذات صلة قربى بالزوجين عند انعقاد جلسة أو جلسات المرافعة لتنفيذ هذا الهدف.
2ـــ إن الوسيلة التقليدية لحل الرابطة الزوجية تقوم على استخدام الزوج لإرادته المنفردة دون اعتبار لمصلحة الأسرة بما يرتب آثار كارثية موجهة إلى أطراف العلاقة الزوجية والى أولادهم وموجهة إلى النظام الاجتماعي بشكل عام وإن الحد منها أو إنهاءها سوف يُقلل من الآثار السلبية للطلاق.
3ـ إذا أستطاع القاضي من خلال ما بذله من جهد إلى الإصلاح بين الزوجين يكون قد حق الهدف والغاية، ولكن إذا تعذر له ذلك فإن الأمر لا يخلو من الفائدة حيث يمكن للمحكمة أن تتوصل إلى اتفاق من خلال المقابلات الوجاهية أثناء المرافعة إلى مسائل أخرى لها صلة بالحقوق المالية والنفقة وحضانة الأولاد وغيرها من المسائل العالقة المتوقفة على مصير الزواج، وفي ذلك فائدة لطرفي العلاقة الزوجية وفائدة أخرى لتقليل عدد الدعاوى.
4ـ إن إيقاع الطلاق داخل المحكمة يكون بصيغة أكثر دقةً وانضباطاً مع ضوابط الشريعة الإسلامية ذلك لأن صياغة عبارات الطلاق تكون بإشراف المحكمة, الأمر الذي يُجنب كثير من الأخطاء التي تحصل من قبل المأذون الشرعي.
إن للطلاق آثارا سلبية تصيب الزوجين وبكل تأكيد تتعداهما لتشمل الأبناء والأقارب وما يولد هذا التصرف من كراهية وضغينة لدى الجانبين لذلك فإننا نؤكد الدعوة إلى جعل الطلاق داخل المحكمة حصراً لنتجنب التعسف في استعمال هذه الصلاحية من قبل الرجل والتي غالباً ما تقوم على الاستهانة بالحياة الأسرية وعدم الاكتراث بالآثار الناتجة عن هذا التصرف وإن هذا الأمر يتطلب تدخلا تشريعيا بإدراج نص في قانون الأحوال الشخصية العراقي يأتي بهذا الحكم وهذا لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية التي وضعت الطلاق تحت تصرف الرجل، فالمحافظة والبقاء على هذه الصلاحية أمراً مُسلماً به ولكن ينبغي أن تكون تحت ولاية القاضي حفاظاً على الأسرة وحقوق أفرادها ونكرر إن هذه الدعوى والمطالبة ما هي إلا دعوى لتنظيم وتقييد زماني ومكاني لصلاحية الزوج في إيقاع الطلاق ضماناً وفائدةً للأسرة.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- تساؤلات حول مصداقية المحكمة الاتحادية
- الدستور العراقي والمحكمة الاتحادية