قبل الانتخابات البرلمانية القادمة يشتد أوار المتصارعين من السياسيين ، تصريحاتٍ سافرةً ونوايا مبيتة ووثائق لا نعرف كثيراً عن مصداقيتها الفعلية ؛ بمقابل حملات مضادة منظمة وغير منظمة ، خارجية مستترة وداخلية معلنة . وبين هذا وذاك يتفرج الناخب العراقي على هذه الصراعات المتوقعة قبل الوصول الى صناديق الاقتراع وتحديد مستحقيها لقيادة البلاد في مرحلة آتية ، سنجهل الكثير من تفاصيلها بطبيعة الحال ؛ لأننا لم نعد نثق كثيراً بالشعارات والبرامج الحزبية والسياسية ؛ فهي وليدة مرحلتها الانتخابية في الأغلب الأعم ، مثلما شهدنا في الانتخابات الماضية المزيد من الوعود ومواثيق الشرف ، لكن كل شىء ذهب أدراج الرياح الى حد بعيد . لهذا ستكون انتخابات المرحلة القادمة أكثر حراجة لبعض السياسيين والحزبيين والإيديولوجيين ، وسيكون لإصبع الناخب العراقي بصمته المثالية الواعية في تحديد المستقبل الذي يصبو الجميع اليه ؛ مستقبلَ وطنٍ غطس بالدماء الى ركبتيه منذ أكثر من أربعة عقود .
ويبدو لنا أن التجربة الماضية ، ثقيلة الوطأة ، وقد حبست الأنفاس في كل مراحلها وتفصيلاتها ، أعطت زخماً واقعياً للمواطن العراقي حينما سيتوجه الى صناديق الاقتراع ونصب عينيه وطن اسمه العراق يحتضن الشعب بكل أطيافه الدينية والحزبية والمذهبية ، ولا يتوجه الى شخص بعينه وشعار بعينه وحالة بعينها ، إلا بالقدر الذي الذي تكون فيه تلك المفردات المشار إليها مَنفذاً فعلياً لأبجدية المواطنة العراقية الأصيلة دون غيرها .
هذا أمرٌ نراه بحكم الواقع القريب الذي سيكون فيه اصبع العراقي بصمة حياة جديدة ، بلا مناورات مذهبية ولا فذلكات سياسية ولا إنشائيات مدرسية ، عنده سنكون مطمئنين الى قناعات الاختيارات واصالة الأصابع العراقية وهي ترسم الطريق المشرق القادم بروح تفاعلية مع الحياة ، بعيداُ عن التحسسات الحزبية والمذهبية والسياسية وكل التشخيصات الطارئة في حياتنا السياسية والاجتماعية.
على السياسيين الجدد أن يستوعبوا درس الماضي ودرس الحاضر ويقيموا علاقاتهم المبدئية مع الحياة العراقية الخارجة من قانون الطوارىء القديم الذي حصر البلاد في قفص ضيق لثلاثة عقود ، وأن يستجيبوا لمتطلبات شعب أنهكته الحروب وحاول الإرهاب قتل روحه بالوسائل كلها ، بل تفنن في محاولاته الحثيثة لإدخال المواطنين في صراعات وحروب داخلية ؛ غير أن العراقيين كانوا اكثر وعياً وقوة وتماسكاً وثقة بالحياة مهما عتمت واسودّت ونأت بعيداً في دهاليزها المظلمة . وعلى السياسيين المتصارعين أن يحترموا ارادة الشعب في حريته وعيشه الكريم ، وأن يقيموا صلاتٍ حية معه بدل التخندق في بحبوحة المنطقة الخضراء التي أخذ مداها يضيق ويضيق ، فيما أخذ الشارع يتسع والحياة تتسع والجمال يتسع ، فالعراقيون بكل مستوياتهم الثقافية والفكرية فهموا اللعبة جيداً ، ليستدركوا ما فات ويضعوا كفتي الميزان بين راحاتهم وقلوبهم ، ليلفظوا الجائر والعميل والخائن والموارٍب ويقتربوا من العراقي الوطني الذي يستنير برؤى الناس ويواصل الحياة على الطريقة المطلوبة ، بدل التخندق في معسكرات التحزب التي لا طائل من ورائها في كثير من الأحيان...
تصارع وتحارب السياسيين ما كان معلناً منها أو مخفياً يبدو في ظاهره اختلافاً في وجهات النظر السياسية ، وهو أمر ربما يكون مطلوباً إذا كان الاختلاف يُبنى على احترام وجهة نظر الآخر ، لا محاولة تسقيطه ، عندها يكون تعارض وجهات النظر صحية ومطلوبة لإنشاء ثقافة الديموقراطية والعمل السياسي الصحيح . وان السلوك الديموقراطي الذي يخلو من الحساسيات ، أياً كان شكلها ، هو الطريق الناجح لبناء دولة المؤسسات المدنية التي نتطلع اليها ..