- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الحدث السياسي و ذاكرة الأمكنة
يصف جاستون باشلر تأثير المكان في الإنسان في كتابه جماليات المكان بمعنى قوله :ربما تتغير الكثير من الأمكنة في حياة الإنسان ويلجأ إلى أمكنة أخرى تبعا لانتقاله غير أنها وان تغيرت لا تترك فيه تأثيرا عميقا ولا يبقى منها ما يؤثرفي ذاكرته ويصفه بدقة سوى المكان الأول فانه الحاضر الأهم قي خزينه وان كان هذا المكان يحمل صفحات الألم والتعب والتشرد وبالإجمال فان انشداد الإنسان للمكان الأول يحمل دلالتين الأولى باتجاه المكان والثانية باتجاه الاسم الذي يلتصق بالمكان ويصبح فيما بعد هويته التعريفية وان حدث تغيير ما في كلا الموضعين سلبا أو إيجابا سيكون هذا التغيير على حساب الذاكرة التي لا تطمح بالتفريط في مخزونها الذي تتغنى به. ولعل التغيير الذي يحدث في المكان نتيجة التقادم يعد امراً مألوفا لا يترك أثرا سلبيا كبيرا بعكس التغيير الذي يحصل على اسم المكان ومحاولة استبداله من هنا يرى بعض الباحثين في الحقول الاجتماعية والنفسية أهمية إن يتصالح الإنسان مع مكونات المكان بشقيها المادي والمعنوي الذي يعيش فيه وحثه على إدامة العلاقة الايجابية معه بغية إيجاد مناخ اجتماعي ونفسي يؤهله لكسب المزيد من الاستقرار والشعور بالأمن .وكذلك يصرحون بأهمية الحرص التام على عدم الاعتداء على مكوناته المادية والمعنوية من قبل الذين يمتلكون مقاليد الأمور التنفيذية كي لا يكون الاعتداء أيا كان شكله . مسوغا للقيام برد فعل معاكس ربما يأخذ شدته بالاتجاه نحو تثوير الكامن العنفي .لاسيما هوية المكان التعريفية واعني بها تحديدا الاسم الملاصق للمكان أو بمعنى آخر اسم المكان الذي عرف به ابتداء. لذلك حرصت الكثير من الدول على أن تستعيد الأماكن العامة والمدن تسمياتها الأولى التي اشتهرت بها قبل تغيير اسمها لإغراض سياسية أو ربما دعائية تتجه نحو اندماج المكان والإنسان بالحقبة الزمنية السياسية الحاكمة وقتئذ. إيمانا من هذه الدول بأهمية الذاكرة المكانية وما تحمل من دلالات ومحاولة الخلاص من التبعات النفسية التي نشأت من جراء ذلك التغيير. وقد حصل هذا فعلا بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق والتحولات التي حصلت في دول أوروبا وكذلك في آماكن متعددة في العالم لتطوى بذلك صفحة تسييس المكان لصالح الثبات في الذاكرة الإنسانية . .ومما يشار إليه أن الكثير من الأمكنة إنما عادت إلى تسمياتها الأولى بفعل ما أنتجته ضغوطات النخب الثقافية على صناع القرار . ويبدو أن البعض من العراقيين ما يزال غير معني بما يحدث في محيطه الدولي وان كان الحدث يحمل في طياته الاعتراف الصريح بأخطاء المراحل التي عاشتها تلك الدول ومن ثم الرجوع عنها بشجاعة بغية الحفاظ على الكيان الاجتماعي وطي تلك الحقب الزمنية وما صاحبها من توتر نفسي و الآمر المؤلم في عراق ما بعد التغيير إننا نصر على ان نكرر ذات الأخطاء التي تجاوزتها الأمم التي عاشت ظروفا كالتي نعيشها الآن لا سيما سياسة تجيير الأسماء وإلصاقها في غير موضعها والأكثر إيلاما أن الذي يقود حملة تغيير الاسماءمن تسمياتها الأولى التي عرفت بها إلى أسماء جديدة هي بعض النخب التي ينبغي لها أن تدرك ما تورثه تلك اللعبة لا أن تنتج مبرراتها الآنية دونما النظر إلى ما سيؤسس هذا التقليد من مرحلة ظلامية تقود العراق إلى ما يسمى بمرحلة التحقيب المكاني وإسباغها على الجيل القادم . ومن هنا أقول :هب انك غيرت الناصرية إلى سومر والعمارة إلى ميسان والحلة إلى بابل والسماوة إلى المثنى وكركوك إلى التأميم فما الذي يحدث وما هي القيمة المعنوية لهذا التغيير ؟هل تستطيع أن تمحو الاسم من حكايات الناس وحديثهم المملوء بالحب عن المكان ووصفه في ضمن الدائرة المكانية الأولى؟ إني اشك في ذلك والدليل على ما أقول ما جرى في ظل الحقبة الصدامية فلااشيع سرا إن كشفت عن تسميات عديدة سميت باسم صدام أو البعث أو مفردات البعث وعقيدته أو رموزه احتلت الواجهات الأمامية للمدن والمؤسسات الحكومية وما أن مضت هذه الحقبة إلا ومضت معها الأسماء التي أطلقت على الكثير من الأماكن والمؤسسات الحكومية وسرعان ما عادت إلى أسمائها الأولى غير أنها احتفظت في ذاكرتها بما تعنيه تلك الأسماء وما تثيره من محاكمة للحقبة الزمنية نفسها ..إذن لماذا نريد لذاكرتنا أن تستمر بالاحتفاظ بما هومؤلم وتورثه للأجيال قسرا باعتباره الجزء الأهم من حب الوطن والحفاظ على كرامته؟ لماذا نصر على أن نغذي ذاكرتنا كل يوم بما يؤسس للانفصال ألعمدي عن مؤديات التعايش السلمي ؟ إنني أسال الذين تستهويهم ثقافة التغيير المستمر للأسماء هل غيرت كركوك اسمها أم أنها ظلت تسمى كركوك على الرغم من إدراجها رسميا باسم محافظة التأميم ؟ إما ظلت الناصرية هي نفسها حين يأتي الحديث عن الشعر والغناء وعن السياسة ولم تبدل إلى ذي قار ؟ أليس لرائحة الهور و(الايشانات) وصوت سيد محمد والمضايف هوية تعريفية لمدينة العمارة دونما ذكر لميسان؟.. وهل سمعتم من احد عاقل في بغداد يروم الوصول إلى مدينة الطب أن يقول لصاحب التاكسي :أرجوك أوصلني إلى مدينة صدام الطبية؟ لكم أن تتخيلوا مدى السخرية التي تنتج من جراء ذلك وكأننا في العراق محكومون بدائرة من السخرية لا نريد الخروج منها لأننا أدمنا على أن لا نرى ابعد مما تراه أعيننا لذلك ترانا ندور في فلك الذين سبقونا من دون الاعتبار .ومن هنا تكرار أخطائنا. لقد آن الأوان أن ننفلت من الفخاخ التي نصبها لنا أسلافنا في إن نطلق الأسماء تحت تأثير الحدث السياسي في مدننا, قرانا ,مؤسساتنا الرسمية, بداعي التكريم والتعريف للجيل القادم.فان التاريخ وحده الكفيل في أن يحتفظ للأجيال القادمة بذاكرة تمجد الإعمال وما يقدمه الإنسان من عظيم الفعل . .إن ما نفعله الآن ماهو إلا تأصيل لدوامة العنف التي تركز في ذاكرة الأجيال حين تصحو ذات يوم على استئصال كل ما تسالمت عليه . وحتما سنكون نحن المسؤولين عما نخلفه في ذاكرة أجيالنا من خراب وستكون مسؤوليتنا مضاعفة لو أننا اعرضنا عن الإفادة مما وقع به من سبقنا بل ونصر على أن نكرر ذات الأخطاء التي كنا ننتقدها ذات يوم.
مزهر جاسم الساعدي