- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء العاشر
بقلم: د. حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الأسبق وسفير العراق الاسبق لدى اليابان وتركيا
لا أعتقد أن منصفاً يتمعن بحاضر العراق وحاله اليوم ولا يربط ماجرى تحت حكم صدام حسين بمآسي الحاضر من تدمير البنى التحتية وحل مؤسسات الدولة، وهشاشة الاوضاع الأمنية والإقتصادية والسياسية، وتفشي الفساد والأرهاب، فضلاً عن الاحتلال والتدخل الإقليمي والدولي في شؤونه، والمخاطر التي تحدّق بمستقبله وتهدّد وحدته الترابية والمجتمعية.
ولا شك فإن لقاء جميس بيكر مع طارق عزيز في جنيف كان لحظة مفصلية في مآلات الأحداث اللاحقة. فالطغاة عبر التاريخ الإنساني يقودون الأمم والشعوب الى التناحر والإقتتال. وإن واحدة من «أفضل» وسائلهم للإستمرار في الحكم هي خلق الأعداء، وخاصة الخارجيين منهم، لأن ذلك يستدعي بداهة «تقوية» الوضع الداخلي، وهذه تنطوي على تطوير فنون القمع والإستبداد لسحق أية محاولة حقيقية للنظر في الأسباب الداخلية التي تسبب أزمات أي حكمٍ كان.
حقيقة الأمر فإن العوامل الخارجية لا تمثّل خطراً على أنظمة الحكم الإستبدادية إلا في حالات نادرة. ولن يجد الباحث أمثلةً حقيقية تثبت عكس ذلك، وإن وجدتْ حالة او حالات معينة فأنها في النهاية تكون مرتبطة بمحاولات تحويل الأنظار عن المشاكل المتأصلة داخلياً والقاءها على عوامل خارجية، تُسوَّق غالباً على انها مرتبطة بأجندات ومؤامرات خارج البلاد.
من المثير بأن الطغاة أنفسهم، في سعيهم القسري لخلق عوامل كابحة للحراك الإجتماعي والسياسي الذي يسمح بتنفيس الإحتقان السياسي الداخلي وفتح مغاليقه، يصبحون ضحية لأنظمة الإستبداد التي يخلقونها للتحكم بشعوبهم. وغالبا ما يجد الطاغية نفسه، في مراحله المتأخرة من الطغيان، محاصراً بكل ما كان يتخيله حصاراً لخصومه. وإن دائرة شكوكه «المبرَّرة» بالخصوم والأعداء تضيق مع الزمن لتشمل أقرب أتباعه وحراسه وأنسابه وأصهاره. وليست قصة حسين كامل منفصلة عن البطش بقيادة البعث في مجزرة قاعة الخلد الشهيرة، التي بطش فيها صدام حسين، في منعطف صعوده المفاجئ نحو الحكم المطلق، بنخبة كبيرة ضمت 68 شخصاً من قيادات «الحزب والثورة» وقادة الدولة البعثية (اعدم منهم 22 شخصاً وقتل العشرات في السجن).
لم تكن حادثة قاعة الخلد القصة الوحيدة في تأريخ البعث العراقي ولا في حياة الطغاة عبر التاريخ. فغالباً ما يجد الطغاة أنفسهم في الأخير معزولين تماماً عن حركة الواقع، وغير مدركين لنتائج أفعالهم و«عاجزين» عن إستيعاب نصائح حتى اؤلئك الحريصين من مقربيهم وزبائنهم، إن تجرأوا على إسدائها، ولم تُفسّر بإعتبارها تآمراً عليهم. في النهاية فإن الطاغية لا يحب ان يسمع إلا ما يعجبه، وهنا مقتله لأن الكثير من الحقائق لا تصل أسماعه، ولا يرى من الصورة إلا «تصوره» المنقوص عنها.
أعتقد جازماً بأن صدام حسين كان في أعوامه الأخيرة أسيراً لنظام حكمه، مثْلُه مثْل أي مسؤول او مواطن آخر «في جمهوريته» البعثية، مع فارق انه كان قادراً على إيقاع الأذى والموت بالآخرين، ومتناسياً بأنه (أي الموت) سيحل به بعد حين، ومثلما حصل لكل الطغاة عبر التاريخ يكون الموت مهيناً ومذلاًّ.
فبعد إعتقاله في 13 كانون الأول 2003 لم يعد وجوده كشخص، حيّاً كان أو ميتاً، ذا قيمة مميتة. ولم تعد قراراته تتسبب بموت الناس او اشعال الحروب. وأتذكر أنني اعتذرْتُ عن حضور إحدى جلسات محاكمته حينها في بغداد، بعد أن طلبْتُ من أحد الأصدقاء تسهيل حضوري، وكان من العاملين في المحكمة الجنائية العليا التي حاكمته الى جانب اركان حكمه. شعرت آنذاك بأنه لم يعد لذلك المتسبب بكوارث العراق والمنطقة قيمة تستحق أن يشاهَد من أجلها وهو في قبضة العدالة. وكان مظهره البائس يدعو الى الأسى والتساؤل عن الكيفية التي تمكن بها ذلك المخلوق من التسبب بكل تلك الأحزان والكوارث والحروب التي عصفت بالعراق والمنطقة.
الى جانب كون صدام حسين أسيراً لنظامه القمعي، بمعنى أنه لم يترك لنفسه نافذةً للمناورة والخروج من الأزمات المتتالية ودوامة الحروب، ولا الخلاص من المصير المحتم لنظام حكمه، فقد يكون الرجل مصاباً بما يُصطلح على تسميته «داء العظمة» إن كان ثمة مرض بهذه التسمية. بمعنى انه كان يتخيّل نفسه بصورة القادر المقتدر الذي يتمتع بسلطة تقارب سلطة الآلهة، وأن الفتك بالآخرين المختلفين او المشكوك بولائهم أسهل لديه من جرعة ماء.
كان صدام حسين يتماهى مع حالة الإنكار المريحة لديه الى الحد الذي حين قيل له فيه أن الطائرت الأمريكية الحديثة والمدمرة التي لا يكتشفها الرادار قد انتشرت قرب الحدود، ردّ بالقول بأن الراعي العراقي في الصحراء يمكنه اكتشاف تلك الطائرات بالعين المجرّدة. وكذلك في محاولة لطمأنة القادة العسكريين على رباطة جأشه وبطولته المتخيلة والقدرة على ايقاع الهزيمة بالأعداء، أوصاهم بعدم الإنسحاب من الكويت حتى لو سمعوا أمر الإنسحاب بصوته من الإذاعات، لأن هناك من يقلد صوته!
ولكن بعد الدمار الفادح للعراق وسحق الجيش استفاق مجبراً وسجّل بصوته المهزوم أمر الإنسحاب الذي عرّض الجيش العراقي الى مجزرة الطريق السريع جنوبي العراق.
فقد جاء أمر الإنسحاب خارج التوقيتات المعقولة لحماية ما تبقى للجيش من كرامة وعتاد وأفراد، وانكشف أمام آلات تدمير متوحشة كانت تحلّق فوق قطعاته المنسحبة المهزومة.
وسجلت الكاميرات العالمية بشاعة تلك الأيام كما لم يسبق أن سجل في صفحات تاريخ الحروب القاتمة من قبل. ولو كان لدى القائد العام للقوات المسلحة ذرةً من الكرامة العسكرية والوطنية لتحمل المسؤولية وهو يرى طيران العدو يسحق جيشه المنسحب لتوارى عن المشهد نهائياً بما فيها بالطريقة التي اختفى بها هتلر من المسرح العسكري.
من «عجائب» الحرب أيضاً أن نيران طائرات التحالف التي سحقت بدون وجه حق، المنسحبين العسكر من الكويت، انطفأت أمام ما تبقى من طائرات سمتية عراقية سحقتْ بها السلطة المهزومة انتفاضة الشعب العراقي للتخلص من نظام الحكم في آذار 1990.
بعد سحق انتفاضة آذار (شعبان حينها) 1991 ومتعلقاتها بالمزيد من القتل والترويع والمقابر الجماعية، دخل العراق مرحلة الدبلوماسية «الحقيقية» لبلد مهزوم عسكرياً شرّ هزيمة، ولا يعرف بها مفاوضوه، سواءً كانوا دبلوماسيين أم قادة عسكريين، سوى الموافقة على ما يُملى عليهم من الطرف المنتصر، وبرعاية نظام الأمم المتحدة ومجلس الأمن بكل تعقيداته وعدم عدالته.
*أجزاء من كتاب عن وزارة الخارجية سينشر قريباً
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟