- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الموازنة العامة و صلاحيات حكومة تصريف الأعمال - (قراءة قانونية)
د. اسامة شهاب حمد الجعفري
اتجه العديد من رجال القانون في العراق الى ابداء رأي قانوني مفاده انه لا يحق لحكومة تصريف الاعمال ان تقدم مشروع قانون الموازنة لعام 2022 و ان اقدمت هذه الحكومة و ارسلت هذا المشروع الى البرلمان و اقره كقانون فانه يكون قابلاً للطعن و من ثم يسهل ابطاله جملةً و تفصيلاً مستندين في رأيهم القانوني هذا الى اساسين قانونيين:
اولهما: يعد مجلس الوزراء مستقيلاً عند حل البرلمان و اجراء انتخابات مبكرة و يواصل تصريف الاعمال بموجب الفقرة (ثانياً) من المادة (64) من الدستور العراقي لعام 2005 و التي تنص على انه: (ثانياً: يدعو رئيس الجمهورية، عند حل مجلس النواب، الى انتخاباتٍ عامة في البلاد خلال مدةٍ اقصاها ستون يوماً من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مُستقيلاً، ويواصل تصريف الامور اليومية).
ثانيهما: منعت حكومة تصريف الاعمال من اقتراح مشروعات القوانين بموجب نص الفقرة (ثانياً) من المادة (42) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم 2 لسنة 2019 التي نصت على انه: (ثانياً: يقصد بتصريف الاعمال اليومية: اتخاذ القرارات و الاجراءات غير القابلة للتأجيل التي من شأنها استمرار عمل مؤسسات الدولة و المرافق العامة بانتظام و اضطراد , و لا يدخل من ضمنها مثلاً اقتراح مشروعات القوانين او عقد القروض او التعيين في المناصب العليا في الدولة او الاعفاء منها او اعادة هيكلة الوزارات و الدوائر).
الا ان هذا التفسير هو تفسير تقليدي يفسر القانون وفقاً لإرادة المشرع وقت وضع التشريع لا وقت تطبيقه, و يتبع مذهب الشرح على المتون الذي يقدس التفسير الحرفي للنصوص و يقتفي منهج رجال الدين عندما يعكفون على الكتب لاستخلاص الارادة الالهية , و يبالغ في التزام الالفاظ و الكلمات الواردة في النص لاستنتاج الحكم القانوني. و لم تكن هذه الطريقة حريصة في تفسير النصوص الى الاهتداء لحل المشاكل الاجتماعية و اشباع الحاجات القائمة و المستجدة بقدر ما كان يعنيها ان ترد الحل الى لفظ التشريع فكانت كل نتائجه في التفسير قاسية و مجافية لمقتضيات الحالة الاجتماعية القائمة و المستجدة , و لا يهم قساوة القانون طالما هو القانون. و اعترض الفقهاء القانونيون الالمان على هذه الطريقة الفرنسية في تفسير القانون و اطلقوا على القانون الذي يفسر بهذه الطريقة بانه (ضلال) لأنه يجمد القانون في قوالبه القديمة و يوقفه عند مراحله الماضية و يعوق استجابته لتطورات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية , فالنصوص القانونية جامدة و الاحداث الاجتماعية و السياسية متغيرة و الذي يوفق بين الجمود و التغيير هو التفسير المتطور الذي يمكن ان يكسب القانون مرونة تتيح له الاستجابة لمطالب العصر الجديدة , فالتشريع متى صدر انفصل عن ارادة واضعيه و اصبح كائناً مستقلاً يحيا حياة اجتماعية , و اذا تطلب تفسيره فانه لا يفسر الا بالشكل الذي يتيح تحقيق العدل و المصلحة الاجتماعية المتمثلة بحكمة التشريع وقت تطبيقه لا وقت تشريعه فتصير الحكمة ذات طابع موضوعي عصري تتغير بتغير حاجات العصر, و هذا الاتجاه من التفسير اعتمده القانون العراقي و الزم القاضي عند تفسيره للنصوص القانونية الابتعاد عن التفسير التقليدي و تطبيق التفسير المتطور في ساحة القضاء بموجب المادة (3) من قانون الاثبات رقم 107 لسنة 1979.
و استناداً للمادة (3) من قانون الاثبات العراقي لا يمكن تفسير النص القانوني بمعزل عن تطورات البيئة الاجتماعية التي تحكم المجتمع و الدولة ومن المسلم به ان الدولة العراقية بعد الانتخابات المبكرة تعيش تغييرات و تطورات كبرى شديدة انعكست على الحياة الاجتماعية فالدولة العراقية تعيش انسداد سياسي منع من تشكيل السلطة التنفيذية (رئاسة الجمهورية و رئاسة الوزراء) و انقضت المدد الدستورية و لم ينتج البرلمان العراقي الجديد السلطة التنفيذية التي يراد منها وفق التفسير التقليدي انها صاحبة الاختصاص الحصري في تقديم مشروع قانون الموازنة لعام 2022 , و مازالت حكومة تصريف الاعمال قائمة في ادارة العراق بسبب استمر الانسداد السياسي و نحن على مشارف انتهاء نصف السنة المالية و العراق يعيش من دون موازنة , و هذا الانسداد السياسي انعكس انعكاساً مباشراً على حياة المجتمع العراقي و مرافق الدولة فالموازنة ذات اهمية كبرى للشعب العراقي بجميع طبقاته و خاصة الفقيرة منها و المتوسطة لان مصالحهم اليومية و حاجاتهم الاساسية متعلقة بالموازنة , و بما ان حكومة تصريف الاعمال ملتزمة دستورياً بموجب الفقرة (ثانياً) من المادة (64) من الدستور العراقي لعام 2005 و قانونياً بموجب الفقرة (ثانياً) من المادة (42) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم 2 لسنة 2019 بتصريف و تسيير اعمال الدولة و المجتمع لحين تشكيل الحكومة ذات الصلاحية الكاملة فإن نطاق منع حكومة تصريف الاعمال من تقديم اقتراحات مشروعات القوانين الوارد في الفقرة (ثانياً) من المادة (42) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم 2 لسنة 2019 هو منع غير مطلق البتة و انما هو منع نسبي يتعلق بالقوانين التي لا صلة لها بتسيير الحياة اليومية للمجتمع و الدولة و ديمومة مرافقهم العامة و لا ينال هذا المنع من صلاحية حكومة تصريف الاعمال في اقتراح مشروعات القوانين التي تتصل اتصالاً مباشراً و تتعلق تعلقاً اساسياً في تسيير الحياة الاساسية للمجتمع و الدولة , بدلالة التزامها الدستوري و القانوني نفسه -رغم استقالتها- بتسيير الحياة الاساسية للمجتمع و الدولة , و تسيير الاعمال الاساسية يجب ان يخضع لمبدأ المشروعية الذي يقضي بخضوع اعمال الادارة التي تضطلع بها الحكومة لسيادة القانون سواء كانت حكومة تصريف اعمال او كاملة الصلاحية و ذلك بموجب المادة (5) من الدستور التي نصت على سيادة القانون , لذا فحكومة تصريف الاعمال تحتاج الى القوانين التي تسهل و تيسر تنفيذ التزامها الدستوري و القانوني في تسيير حياة المجتمع و الدولة الاعتيادية , فلا يمكنها ان تسيير اعمال الدولة و المجتمع في فراغ قانوني و الا كانت مسؤولة مسؤولية كاملة امام القانون, فهي ما زالت حكومة دستورية تخضع للدستور و القانون , و ان قانون الموازنة العامة الاتحادية هو في مقدمة القوانين المتصلة بحياة المجتمع العراقي و خاصة الطبقات الفقيرة و المتوسطة المعتمدة كلياً على الموازنة لتغطية نفقات حاجاته الاساسية من الغذاء و الامن و التربية و التعليم و الماء و الكهرباء و الصحة و صيانة شبكة الطرق و المجاري و الرواتب و الاجور و رواتب شبكة الحماية الاجتماعية للأرامل و المطلقات و المعوقين و المصابين و العاجزين عن العمل لعوق جسدي او ذهني و برامج تمكين الشباب في مشاريعهم الصغيرة و المتوسطة و تعيينات العاطلين عن العمل من جيوش الخريجين اصحاب الشهادت الاولية و العليا... و غيرها من الخدمات الاساسية التي تتصل بحياة المجتمع الاساسية و التي تتكفل المرافق العامة للدولة بتوفيرها للمجتمع بشكل شفاف عن طريق الموازنة العامة الاتحادية. بالإضافة الى ان قانون الموازنة العامة هو قانون سنوي و ليس قانون دائم فهو يتمتع بالصفة الوقتية بموجب الفقرة (ثانياً) من المادة (1) من قانون الادارة المالية رقم 6 لسنة 2019 مما يدل على انه قانون مهمته الاساسية تسيير الحياة الاساسية للمجتمع و الدولة لانه يساير التغييرات الاجتماعية للمجتمع و الدولة.
و من خصائص القاعدة القانونية انها قاعدة مجردة اي تعالج وضعاً نموذجياً موحداً يقيناً يتكرر و لم تكن التطورات الاجتماعية محسوبة في ذهن المشرع عند وضعه للقانون , وان الوضع النموذجي لحكومة تصريف الاعمال هو استمرارها لمدة ثلاثون يوماً, و هذه المدة قصيرة الامد , لكن كيف تتمكن المرافق العامة للدولة من اشباع الحاجات الاساسية للمجتمع و تسيير حياته اليومية اذا ما استمر الانسداد السياسي و حكومة تصريف الاعمال لمدة ستة اشهر او عاماً كاملاً؟ و ماذا لو تطور المشهد السياسي العراقي من انسداد سياسي الى تيه سياسي لمدة اعوام! هل يمكن ان يكون القانون عائقاً امام استمرار الحياة و يكون وسيلة طبيعية بيد من يريد تعطيل الحياة اليومية للمجتمع و الدولة؟ ان الدولة يجب ان تستمر و ان المجتمع يجب ان يستمر , و ان القانون ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة لغاية هي المحافظة على الجماعة الانسانية و اذا كان القانون غير صالح لحفظ الجماعة الانسانية وجب تبديله كما يقول الفقيه القانوني الالماني اهرنج (Ihreing) و اذا لم يُبدل وجب تفسيره تفسيراً متطوراً باعطاءه معنى جديد لم يعطه المفسرون من قبل و لم يكن البتة في ذهن المشرع وقت وضعه النص , فالقول بعدم دستورية و قانونية تقديم الموازنة من قبل حكومة تصريف الاعمال مع استمرار الانسداد السياسي في انتاج السلطة التنفيذية لمدة طويلة يقود الى تعطيل الحياة الاساسية للمجتمع و الدولة و اهدارها بشكل واضح , هذا بحد ذاته هو تهديد خطير للمجتمع العراقي و الدولة.
فالموازنة العامة الاتحادية وفقاً للفقرة (ثانياً) من المادة (1) من قانون الادارة المالية الاتحادية رقم 6 لسنة 2019 هي جدول تتضمن نفقات و ايرادات تغطي النفقات العامة بشقيها النفقات الجارية و النفقات الاستثمارية , فالغذاء الذي يوزع على طبقات الشعب العراقي الفقيرة و متوسطي الحال عن طريق برنامج البطاقة التموينية , و ترفيعات و علاوات رواتب موظفي الدولة , و تعيينات أجيال جديدة من شباب العراق من اصحاب شهادة البكالوريوس و الماجستير و الدكتوراه , و تعيين اصحاب عقود قرار رقم 315 , و توفير التمويل اللازم للوزارات بهدف قيامها بواجباتها القانونية تجاه المواطن فيما يتعلق بالخدمات العامة كالكهرباء و العدل و النفط و الصحة و الصناعة و الزراعة و التربية و التعليم و غيرها من وزارات الدولة و مرافقها العامة, فهذه كلها تدخل في باب النفقات الجارية التي تتطلبها مؤسسات الدولة و مرافقها العامة لمزاولة اعمالها اليومية بهدف استمرار نشاطها الاعتيادي اليومي و ديمومته و منعه من التوقف, اما النفقات الاستثمارية فهي تلك النفقات التي لا تقتصر على انشاء مشاريع جديدة فحسب و انما ترد ايضاً على ادارة مرافق الدولة و ادامتها من خلال زيادة الطاقة الانتاجية و اطالة العمر الانتاجي للموجودات الثابتة في المرافق العامة بموجب تعريفها وفق المادة (1 / خامساً) من قانون الادارة المالية الاتحادية العراقي فإن اطالة العمر الانتاجي و للموجود الثابت و تطويره هي من اعمال الادارة المعتادة المكلفة بالقيام بها الحكومة فهي لا تقصد الا ابعاد الموجود الثابت عن التلف و عدم الحاق الضرر به من خلال المحافظة على عمره الانتاجي و اطالة عمره و الحصول على اقصى حد من منافعه المقصودة لصالح مالكه الاصلي (الشعب) من خلال تطويره و تحسينه , اما انشاء مشاريع جديدة فلا تدخل ضمن الاعمال اليومية للدولة فلا يجب ان تتضمنها موازنة عام 2022 لانها لا تدخل في باب الاعمال اليومية و المعتادة لحكومة تصريف الاعمال و يمكن ابعاده من هذه الموازنة لان مضمون الموازنة لعام 2022 و المقرة من قبل تصريف الاعمال يجب ان يأتي بالشكل الذي لا يتعارض مع تسيير الشؤون الاساسية للمجتمع و الدولة.
أقرأ ايضاً
- حرب استنزاف مفتوحة
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- المرجع السيستاني.. المواقف تتكلم