امتار معدودة وقدور واوني بسيطة وعمال شباب يقفون في ساحة داخل منطقة الشورجة في بورصة الجكاير تحديدا، مضى على مطعمهم سبعة عقود، مر هذا المطعم بمراحل عدة من السفرة الى العربة الى الطاولة والكراسي، كل شيء تغير حولهم الحكومات من العهد الملكي الى وقتنا الحاضر، والسوق تبدل حاله ثلاث مرات والازياء والعملات والتقنيات ووسائل الاتصال والنقل وغيرها، الا هم ما زالوا على مطعمهم وطعامهم الذي يقصده الكثير من الناس واغلبهم الفقراء والكسبة، لكن للتجار والميسورين حصة فيه.
سفرة واحدة
توارثنا هذا المطعم منذ اكثر من سبعة عقود من جدنا والان نديره، بهذه المقدمة يتناول قصي ستار ابو زينب وارث اقدم مطعم في الشورجة حديثه لوكالة نون الخبرية، ويقول "نحن من سكنة منطقة الشورجة المسماة الآن (بورصة الجكاير) كانت تلك المنطقة منذ عقود طويلة علوة للفواكة وتسمى (علوة ميوة) وكانت لا تعمل تلك العلوة صباحا، لان الشاحنات المحملة بالفواكة تأتي اغلبها من المحافظات وتصل ظهرا، ولم تكن هناك مطاعم على الطرق الخارجية بين بغداد والمحافظات ، ويعد جدي الحاج ستار ابو اسكندر الذي بدأ عمله عام 1949 اي قبل 73 عاما اول من باع الطعام لاصحاب الشاحنات والعمال والحمالين واصحاب العلوة واول ما بدأ بطبخ التمن والمرق فقط وكانت جدتي تطبخه في دار مؤجرة قريبة من العلوة موجودة الى الآن بطريقة بغدادية قديمة فيها نكهة طيبة جدا، ويجلبه بعربة ويفرش سفرة طعام واحدة على الارض ويصب الطعام مرة واحدة ويجلس الجميع عليها من سائقي شاحنات وحمالين وعمال واصحاب مكاتب في العلوة ويتناولون طعامهم، وكانوا هم من يجلبون الخبر مع الاكل او البصل والخضروات، ولا يدوم عمل جدي في توزيع الطعام اكثر من ساعة واحدة، وكان سعر الوجبة بفلسان قليلة لا تتعدى خمس فلوس او عانة التي كانت قيمتها 4 فلوس (عملات معدنية مسكوكة معتمدة سابقا) وساعده ابي لمدة من الزمن ثم تعين بوظيفة فاستمر عمامي بمساعدته ثم التحقت انا في نهاية العقد السبعيني للعمل معه".
تغير المنطقة
استمر جدي بالعمل وتمكن من ايجاد هذه المساحة من الارض حتى مطلع الثمانينات حيث نقلت علوة ميوة الى منطقة جملية وتحولت المنطقة الى سوق للكرزات والفستق وبعض محال الفواكة التي تبيع بالمفرد، فحول جدي عمل مطعمه الى المشويات هكذا يستمر ابو زينب بسرد قصة هذا المطعم الشعبي ويستمر "وقعت الحرب العراقية ـ الايرانية والتحق ابي واعمامي بجبهات القتل فاضطر جدي لتشغيل عمال مصريين لكنه صهرهم معنا ليبقى على نفس الطعام والنكهة، وكانت كثير من العائلات ترسل بطلب الطعام وخاصة عندما تستقبل ضيوفا، لاننا نطبخ اربع انواع من التمن مثل الابيض وتمن الباقلاء والاصفر والبرياني وستة انواع من المرق مثل الباميا والباذنجان والطرشانة والفاصوليا والشجر والقيمة"، مبينا انه " في العقد التسعيني ومن شدة ولعي بالعمل في المطعم تركت الدراسة وتفرغت للعمل نهائيا لكني اردت ان اعيد الطعام الذي كان يقدمه جدي، وبالفعل كان اعمامي يقدمون المشويات من الفجر الى الساعة العاشرة صباحا، وقمت انا بتقديم التمن والمرق من العاشرة الى العصر بسعر 350 دينار بعد ان اعتمدت على زوجة عمي بالطبخ واحتفظت بنفس النكهة ثم تعملت الطبخ وعمري 21 عاما وعاد الزبائن وخاصة من كبار العمر ومنهم من هاجر الى الخارج ويأتي لتناول الطعام عندما يزور العراق ويسالوني عن صلتي بجدي ويفرحون عندما يعلمون انني حفيده، ومثلما توارثنا العمل في المطعم من جدي الى ابي الى احفادهم هناك زبائن يتناولون الطعام الان هم احفاد او ابناء الاحفاد لزبائن كانوا يتناولونه عندنا في العقود الماضية".
مساعدة الفقراء
يتحدث ابو زينب عن طبيعة زيائن المطعم بقوله، ان "اغلب الزبائن هم من الفقراء او متوسطي الدخل ومنهم الحمالين وعمال المحال واصحاب العربات ومعهم ايضا المتسوقين واصحاب محال الجملة منهم رياضيين وفنانيين وشعراء وتعودنا على تقديم الطعام دون تقييد، فمثلا مهما طلب الزبون من صمون او زلاطة او مرق اضافي نعطيه دون حساب، وخاصة في التسعينات حيث فرضت العقوبات الاقتصادية على العراق ولم نترك طريقتنا وانخفضت ورادتنا كثيرا ولم نغير ما كنا نقدمه للزبون، بل ان هناك الكثير من يهمسون باذني انهم لا يملكون المال او لم يقبض اسبوعيته فكنا نطعمهم مجانا، واخرون كانوا يتناولون الطعام ويغادرون دون دفع الحساب ومنعت اي عامل ان ينادي عليهم، لانني اعرف انه قد يكون لا يملك المال او فقير او جائع ولم يقاوم جوعه، وبالفعل كان عدد منهم يرجعون بعد مدة ويدفعون الحساب باعذار مختلفة، بل وصل الحال الى تناول الطعام والدفع بالآجل، او على شكل اقساط".
زبون قديم
ابو علي (60 عاما) احد من سكنة الشورجة واحد زبائن مطعم ابو اسكندر يتحدث لوكالة نون الخبرية بقوله "انا زبون قديم للمطعم وعاصرت الحاج ستار ابو اسكندر منذ سبعينيات القرن الماضي حيث كنت صبيا وكان يصحبني ابي معه لمحله وكان يجلب قدور التمن والمرق بعربة ويقف بها مقابل هذا المكان الذي نحن فيه الآن، وكان يبيع التمن والمرق واغلب زبائنه من الفقراء والعمال والحمالين، والمتسوقين وكان سعر الوجبة بمئة فلس، وما زالت الى الآن نفس نكهة الطعام من الاجداد الى الاحفاد، وكان ابو اسكندر معروف بطيبته وسخاءه ويده الكريمة، ويساعد الفقراء والان احفاده يعملون نفس الشيء، واعرف ان حفيده قصي ابو زينب عندما يحين موعد الشعائر الحسينية يشارك بدعم المواكب بالمال فقط، لانه يرفض عروض العمل في المواكب لاعتقاده انها فرصة لكثير من الطباخين الذين يعتبرون شهري محرم وصفر موسما لهم للعمل فيترك الفرصة لهم ليحصلوا على ارزاقهم، ويكتفي هو بدعم المواكب بالمال، ويختصر الطبخ على بيته وتوزيعه على الجيران".
التوثيق
اما دريد شقيق ابو زينب فقال لوكالة نون الخبرية "وردتني فكرة او اوثق تاريخ هذا المطعم لانه ليس تاريخا لمطعم شعبي بسيط بل هو تاريخ عائلة تعلقت قلوبنا به وصورت مجموعة فيديوات لاشخاص كبار بالسن اعمارهم تصل الى الثمانين وتحدثوا عن جدي وذكريات المطعم، وبالرغم من اني موظف الان الا اني انهي دوامي واعود للعمل في المطعم دون اجر لانه رزق العائلة الكبيرة، ولا يختص الرزق بنا فقط، بل نحن نتعمد ان نستقطب عمال تكون اعمارهم صغيرة ونربيهم بالعمل بالمطعم ثم عندما يكبرون نزوجهم ونفتح لهم بيوتا لعائلاتهم ليكونوا متعلقين قلبا وقالبا بالعمل، والان لدينا عمالنا مثل محمد الذي عمل وعمره 12 سنة وحاليا متزوج وبيته مستقل عن اهله ومثله محمود وحازم، ورغم شعبية المطعم الا ان الكثير من العائلات تقصده وتتناول الطعام فيه، بل هناك العديد من تجار محافظتي النجف الاشرف والقادسية، يتصلون بتجار الشورجة لتجهيزهم بالبضائع ومعها وجبات سفري من اكلات مطعمنا".
قاسم الحلفي ــ بغداد
أقرأ ايضاً
- من فاكهة التين والبرتقال والموز والليمون والبطيخ : موكب يقدم عصائر طبيعية تطفئ ظمأ "المشاية" في اجواء الحر اللاهبة
- آوى النازحين والزائرين :موكب من واسط يقدم خدماته لزوار الحسين في كربلاء منذ (17) عاما
- عشرون نوعا في خمسين صينية: موكب يقدم (6) اطنان من الفاكهة للمشاية في قضاء الجبايش(فيديو)