- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
افواه لا تفتر عن الدعاء لصاحب فتوى التكافل
بقلم: عادل الموسوي
"ابو مريم" مدير المالية في أحد المواكب الحسينية، له سياسة اقتصادية وإجراءات وتدبيرات، من حملة الشهادات في هذا الاختصاص، ذو خبرة وتجربة وممارسة طويلة.
بدأ "ابو مريم" وأفراد الموكب بالتهيئة والاستعداد لذكرى استشهاد الامام موسى بن جعفر صلوات الله وسلامه عليه.
مواد ومعدات الخدمة جاهزة للنقل إلى الكاظمية المقدسة، تصريحات الدخول، برامج الخدمة ومراسيم تشييع النعش الرمزي للإمام عليه السلام معدة، وشباب الموكب ينتظرون الايعاز بالانطلاق لنقل المواد.
ألغيت تصريحات دخول المواكب وفرض حظر التجوال وبات النعش وحيداً والموكب خالياً تلك الليلة الموحشة.
رددت جدرانه السوداء أنين "سيد جاسم الطويرجاوي" وهو يقرأ مقتل الامام موسى بن جعفر عليه السلام في مكبرات الصوت.
لم تتبدد الأحلام ولكن المقتضي حتم ذلك في ظل تداعيات "كورونا".
"ابو مريم" يبحث عن فعالية تشبع فراغ الخدمة في الزيارة الرجبية هذا الموسم.
بعد مشاورة وأذن من أصحاب الأموال تقرر أن يكون احياء ذكرى شهادة الامام موسى بن جعفر صلوات الله وسلامه عليه، بتوزيع السلات الغذائية ثواباً على ارواح اموات المتبرعين.
فعالية بقدر الأموال المرصودة تنجز في يوم المناسبة.
واذا بالمناد يناد: "وينبغي لأصحاب المواكب الحسينية الكرام أن يستعيدوا نشاطهم لدعم وإسناد العوائل المتضررة في الوقت الراهن".
لبيك وسعديك سيدي المرجع..
وكأنها فتوى الجهاد الكفائي.. واذا بالمؤمنين يبتكرون أساليب عجيبة للبذل والعطاء..
انتهت المناسبة الدينية ولا زال ابو مريم مع فريق من الساعين والباذلين والعاملين، يتحرون العوائل المتضررة تلبية لتوجيهات المرجعية الدينية بدعم وإسناد العوائل المتضررة.
"ابو مريم" وأثناء جولاته في توزيع السلات الغذائية شهد مواقف مأساوية مؤلمة لعوائل معدمة، وتوافقات غريبة، حدثني ببعض منها:
عبرة غريبة ودموع مجهولة
قال ابو مريم: ذهبت انا وقاسم لتسليم "سلة" إلى أحد الإخوة.. طرقنا الباب .. خرج الينا، تبادلنا معه السلام والسؤال عن احواله، وما ان امسكنا بيده "السلة" حتى توقف عن الكلام .. خنقته العبرة وسالت الدموع.
فرحاً بالسلة لأنها وصلت في الوقت المناسب
لم يتوقع ان يذكره أحد أو يستشعر معاناته
لا أدري.. فقد انهينا الكلام بالتوديع رفعاً للحرج.
اطفال يبحثون عن بدائل
قال ابو مريم: احدى العوائل التي اوصلنا لها السلة الغذائية لديهم خمسة اطفال صغار.
قالت الام: احنا حابسيهم حتى ما يطلعون بالشارع وهم ماعدنا فلوس ننطيهم حتى يشترون، شفناهم يم الثلاجة يريدون يشربون بعض الادوية، ولما سألناهم ليش گالوا بمكان الحلويات".
كم يعطى الطفل من مصروف للشراء من "الدكان" ؟!
كانوا لا يملكون حتى هذا المقدار من المال.
يقتسم المعونة مع جاره
قال ابو مريم : احد الميسورين سلمني مبلغاً وخولني اعطاءه للمحتاجين وبحسب تقديري للحالة.
احد المحتاجين الذي لا يملك ألف دينار، لمست انه بحاجة ملحة لشراء حليب الاطفال و"الحفاظات"، فسلمته مبلغ (٥٠) الف دينار.
بعد فترة عرفت ان هذا المحتاج أقتسم المبلغ فكان يشتري حليب الاطفال له ولجاره الذي كان محتاجاً ايضاً.
نفدت الـ (٥٠) الف بينه وبين جاره، نفد حليب الطفلة، الجار في حالة غريبة وكأن مصيبة نزلت عليه وعلى اهله.. لا يقر له قرار .. لانه لا يستطيع أن يؤمن الحليب لطفلته.
"حسين" يضيف الخبز إلى السلات الغذائية
قال ابو مريم: قبل ايام طرق بابنا احد الاولاد عرفت لاحقاً انَّ اسمه "حسين" تذكرت انه كان يتردد على الموكب، هو ولد مؤدب..
رحبت به وسألته عن حاجته..
قال: "والله عمي سمعت ان الموكب يوزع سلات غذائية، واكو عائلتين كلش محتاجين.. وبعد بكيفك".
كان حسين متحمساً جداً لمساعدتهم..
لمست منه الصدق، اعطيته "سلتين".. رزمهما على دراجته الهوائية..
قال لي: "عمو ان شاء الله اجيبلك تبرعات" .. وذهب بإتجاه أحد الافران وهو مسرورٌ جدا.
قال ابو مريم : ما اثار انتباهي ان "حسين" جاء بعد بضعة ايام واخرج من جيبه "عشرة آلاف" دينار ..
وقال: "عمو هذه التبرعات جمعناها اني وجماعتي.."
عشرة آلاف دينار من مجموعة !!
تعني انهم اشتركوا بمصروفهم اليومي ألف او ألفي دينار من كل واحد منهم..
وأضاف حسين: " عمو من اخذت منك السلات اشتريت خبز وخليته وياهن وانطيته للعائلتين، وطبعاً كلش فرحوا بيهن.."
وكأنه رأى انَّ الخبز طعام اساس يجب انْ يوفره لهم مضافاً الى السلات ..
"حسين" لا يملك سوى مصروفه اليومي.
آثار البكاء وجميع آثار البؤس
قال ابو مريم: رصد قريب لي - اسمه حبيب - مناشدة لامرأة محتاجة، بعد السؤال والتحري تبين أن العنوان في نهاية حي اور قرب جامع "..." وأن صاحب الملك يطلب الايجار ولديها طفل يحتاج إلى الحليب.
ذهبنا ومعنا كمية من السلات الغذائية لعدد من العوائل المسجلة من مناطق مختلفة، ومن المفترض ان نذهب الى تلك المراة لكن للاسف فإن كل ما لدينا قد نفد فلم نصل اليها ذلك اليوم ..
تلقى "حبيب" منها مناشدة أخرى، قالت :" ابني شو ما جيتوني.. واني كلش محتاجة" - وكأنها وجدت من ينقذها ويلبي جميع احتياجاتها -
فقال لها حبيب: " خالة احنا موكب وما عدنه بس غذائية"
قالت: " شيجي منكم انعم الله".
في اليوم الثاني ذهبنا للتوزيع ومعنا كمية جيدة من السلات الغذائية للعوائل المسجلة لدينا ومعنا بضع سلات غذائية اضافية للاحتياط.
وصلنا قرب الجامع - في حي اور- اتصلنا بتلك المرأة، بقينا ننتظر وفي فترة الانتظار رأينا امرأتين ينتظرن قرب الجامع و بعد فترة قصيرة ذهبن الى سبيلهن، كان ذلك بحدود الساعة الثالثة عصرا..
جاءت المراة ومعها طفلها لائذا بجانبها..
دهشنا من حالها ومظهرها وكأن مصائب الدنيا جميعها صبت على رأسها..
لازالت اثار البكاء في عينيها الغائرتين، وفي وجهها جميع اثار البؤس.. اخذت السلة وكأنها تقول سوف تسد جزءً من حاجاتها..
سألناها عن حالها فقالت: " والله حتى الغاز مخلص وماعندي ابدل القنينة"، فأعطاها "حبيب" ما جادت به نفسه فذهبت الى سبيلها.
في الاثناء مرت امراة وفي اذيالها ثلاثة اطفال اقترب احدهم منا وقال - متلعثماً : "عمو.. والله.. احنا هم محتاجين.. وابوي مريض.. وگاعد بالبيت.."
بعد توجيه بعض الأسئلة اعطيناهم سلة غذائية.
تحركنا بالمركبة قليلاً تذكر "حبيب"حال المرأة البائسة، قال: "والله كسرت خاطري هذي المرأة.. لو مندلين بيتها حتى انجيبلها بعد مساعدات" قلت: " لا زالت في نهاية الشارع لم تدخل الزقاق بعد، ارجع بنا.. سنأتي لها بمساعدات أخرى في يوم اخر"..
عندما دخلنا الزقاق كان في وسطه اعمال بناء ورافعة كبيرة "كرين" حالتا دون الوصول، فرجعنا بمركبتنا الى الخلف وفجأة واذا بالامرأتين اللتين رأيناهما بدايةً قرب الجامع.
اوقفتا المركبة وقالت إحداهما: "چنا منتظرين يم الجامع مو على اساس انتم تجون وتوزعون الساعة بتلاثه".
قلت: "نحن لانعرفكم ولم نقل لاحد اننا سنوزع قرب الجامع".
فتبين انهما متصلتين بمجموعة أخرى تخلفت عنهما.
قلت: "يابه المطلوب شنو ؟"
قالتا: "والله احنا محتاجين وكلشي ماعدنا"
بعد طرح بعض الأسئلة اخرجنا لهما "سلتين" وهما اخر سلتين كانتا معنا.
وبعد الشكر قالت احداهما : "والله فلوس غاز ماعدنه وياريت من توزعون مرة اخرى اذكرونا" فاعطيناهما مبلغا لشراء الغاز.
قال ابو مريم:
- الملفت هو اننا أخذنا عدد من السلات الإضافية للاحتياط فكانت كافية للإعداد الطارئة الغير مسجلة.
- كان من المفترض أن نأتي قبل هذا اليوم فكان ذهبنا اليوم رزقا للعوائل الإضافية.
-التحرك لمعرفة دار تلك المرأة والرجوع كان سببا في رزق تلكما المرأتين اللتين انتظرتا معونة من مجموعة أخرى.
انتهت قصص اليوم ومنها قصص ومواقف أخرى لم تذكر لحساسية الاسماء والمواقف.
تداعيات "كورونا" وفتوى التكافل فتحت الباب للبحث والتحري عن افواه ليس لها طمع بالقرص ولا عهد لها بالشبع..
تلك الأفواه لا تفتر عن الدعاء لشيبة السيد المرجع.