في كلمته التي بعثها إلى مهرجان ربيع الشهادة الثقافي العالمي السادس أوضح الأمير (الحسن بن طلال) رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه ورئيس شرف منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام، بأن الأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة حرجة في تاريخها تقتضي منا جميعاً الاعتصام بحبل الله ونبذ الخلاف والركون إلى منهج الحوار والاستجابة للتحدّيات التي تطالُ الأمن الإنسانيّ بإرادة صُلبة وعزيمة لا تلين.
وهذه هي الكلمة التي قرأها نيابة عنه ممثله الشخصي الدكتور محمد سعيد الطريحي في حفل افتتاح فعاليات مهرجان ربيع الشهادة الثقافي السادس مساء يوم الجمعة الماضي وحصل موقع نون على نسخة منها
بسْمِ اللهِ الرّحمن الرّحيم
والصّلاةُ والسّلام على نبيّهِ الأمين
وعلى آلهِ وصحْبِه ومَنْ والاهُ أجْمعين
أبدأ بهذه الكلماتِ للإمام علي (كرّم الله وجهه) إذْ يقول: \"الحمدُ لله الذي لا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ القائِلونَ. ولا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ العَادُّونَ. ولا يُؤدِّي حَقَّهُ المُجْتَهِدونَ، الذي لا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الهِمَمِ وَلا يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ.\" (نهج البلاغة، الجزء الأول)، نجتمع اليوم في مدينة كربلاء المقدسة – هذه المدينة التي أستشهد بها أمام الهدى السبط الحسين بن الإمام علي (عليهم السلام) والتي أصبحت منارة مشرقة للحضارة العربية الاسلامية ، وصيرتها الدماء الزاكية التي سالت على تربتها الطاهرة رمزاً للشموخ وموئلاً للحق ونبراساً للأحرار ومورداً للعز الماثل في وجدان الامة، الحاضر في ذاكرتها مهما تعاقبت الايام والدهور، وكم كان بودّي أنْ أكونَ معكم اليوم لولا التزاماتٌ ملحّة. ويسرّني أنْ أزجي إليكم التحيّة الصّافية والمحبّة الخالصة؛ متمنيًا لكم مؤتمرًا موفقًا يُغني البحوث ويُفعّل الحوار حول الدور المهمّ الذي تنهض به الأماكن المقدسة في نشر السلام والأمن على مستوى المعمورة.
يتضح للمتأمل في أحوال الأمّة أنّها تمرّ بمرحلة حرجة في تاريخها تقتضي منا جميعًا الاعتصام بحبْل الله ونبْذ الخلاف والركون إلى منهج العقل والحوار، والاستجابة للتحدّيات التي تطالُ الأمن الإنسانيّ بإرادة صُلبة وعزيمة لا تلين.
أشير هنا إلى قول الإمام الشاطبي في مقدمة كتابه الموافقات: \"اجعل طلب الحق لك نحلة والاعتراف به لأهله ملة\" ، لا تشرب مشرب العصبية، ولا تأنف من الإذعان للحق إذا لاح وجه القضية...\".
أذكّر هنا بدعوة الإسلام إلى نبْذ الخلاف بين الناس والتواصي بالحق والصبر لتجاوز الخلاف وتأليف القلوب. هذا هو أساس المنهج الإسلامي في أدب الحوار. وفي وقتنا هذا، حتى نتمكّن من تطبيق آليّة الحوار مع الآخَر، يجب إعداد الفرد لهذه المهمّة من خلال تفعيل المواطنة ودعْم المجتمع المدنيّ وتعزيز المشاركة وإرساء القواعد السلوكيّة للحوار التي تتضمن التأكيد على القواسم المشترَكة، ووضْع أطُر مناسبة لتفهّم الاختلافات في الرّأي، وقبول النهوض بمسؤوليّة الأقوال والأفعال على الصعد كافّة.
ومن المهمّ أنْ نستمرّ في تنظيم حوارات بين المذاهب الإسلامية حول القضايا التي تشغل الأمة، خاصة في مجال التكافل الاجتماعي بين المجتمعات الإسلامية والفقه الاجتماعي والقضايا التي ترتهن بحلّها صيرورة هذه المجتمعات. إن من شأن ذلك أن يسهم في التقريب بين المذاهب، وأن يرسخ القواسم المشترَكة وقيَم التعاضد والتكافل والتسامح بين المسلمين. فالإسلام واحد خالد بتعاليمه السمحة ومبادئه السامية وقيَمه الزكية التي لا اختلاف عليها ولا وحدة إلا بها.
ويحتاج التقريب بين الأفكار والمذاهب والمدارس العلمية والفقهية في وقتنا الحاضر إلى اجتهاد جديد وفق منهج علمي سديد. ، كما قال ابن قيم الجوزية (هل يكتمل الاجتهاد بغير معرفة الحق ومعرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر؟)
و ضمن الجهود المبذولة على اختلاف أنواعها من أجل التقريب بين السنة والشيعة، نعملُ على عقد حوار سني شيعي بمشاركة كوكبة من علماء الأمة. ومن المأمول أنْ يُعقد هذا الحوار خلال السنة القادمة – بإذنِه تعالى.
كما لا بد من التركيز على إنسانيّتنا المشترَكة التي تتجاوز الحواجز الدينيّة والطائفيّة والسياسيّة والعرقيّة، وتشكّل نقطة التقاء بين الأديان تمهّد الطريق أمام نشْر السلام والأمن في العالم. إن القيم الإنسانية المشتركة مثل الغيريّة والتعاطف والإحسان والكرامة الإنسانيّة تضع على عاتقنا مسؤوليّة حماية فئات المجتمع كافّة، وبالأخصّ المهمّشون والهشون والمهجّرون واللاجئون وأبناء السبيل.
كذلك، فإنّ الأماكن المقدسة أمانة في أعناق كل المخلصينَ من أبناء الأمّة. فهي تقفُ شامخة بأبعادها الدينيّة والأمنيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة. وهي بحاجة إلى الحماية والرعاية في إطار سلْطة معنويّة تستندُ إلى مبدأ سموّ الدين فوق السّياسة. وقد دعوتُ – غيْر مرّة – إلى إعادة إحياء السلطة المعنوية من خلال تعظيم الجوامع واحترام الفروق. ومن المهم في هذا الإطار أن تحظى هذه السلطة المعنوية بالقبول على المستوى العالمي، بحيث تعلو فوق كل الاعتبارات السياسية.
وهنا أجدّدُ دعْوتي إلى إقامة هذه السّلْطة ذات البعد الأخلاقي، التي ترمي إلى إدارة الأماكن المقدسة والحفاظ عليها من أي محاولات للعبث بها وتغيير معالمها، وصوْن آثارها الإسلاميّة والعربيّة من الزّوال. فليسَ أمامَنا إلا العمل من أجل تحقيق هذه الرؤيا واستنهاض الهمَم من أجل نشر السلام والأمن المُستنديْن إلى آلياتِ الحوارِ، وإلى رؤيا إقليميّة للتعاون وتحقيق الاستقرار. وأؤكد ضرورة التعامل مع قضايانا من منظور إقليمي فوق قطري يتجاوز التمييز الضيّق بين العرب والعجم، ويعترف بالتنوع والتعددية.
وإذا كنا نسعى من أجل عالم أكثر تراحمًا، وأعمق فهمًا، وأشد تضامنًا، فإنّنا بحاجة إلى دستور خلقي للقيَم الإنسانية يرمي إلى تحقيقِ الأمن والسلام للجميع، وإلى صوْن الكرامة الإنسانية. وللأماكن المقدسة دورٌ أساسي في تحقيق هذه الغاية.
وإذْ يتزامن انعقاد هذا المؤتمر مع ذكرى مولد الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنها لمناسبة غالية نستقي منها دروسًا وعبرًا في التمسّك بالكتاب وهدي سيّد المرسلين، وفي الشهادة والوفاء لقيَم الحرية والشورى. وما أحوجنا اليوم إلى وقفة تأمل وتدبّر لهذه الدروس فندعو الأمة إلى إحياء المصالحة الشاملة مع ذاتها أولاً وبين حكامها وشعوبها، بما يضمن تعزيز الحريات وضمان الحقوق، والمشاركة في رسم معالم المستقبل، واعتماد النهج السلمي والحوار سبيلاً للإصلاح، وتعزيز إمكانات الأمة لتنهض بدورها الحضاري الإنساني على أتمّ وجه.
أحييكم؛ وأسلم عليكم...
أقرأ ايضاً
- مكتب المرجع السيستاني يعلن غرة شهر ذي القعدة 1445 هج
- هنية يعرض للسوداني شرحا مفصلا عن موافقة حماس على هدنة حرب غزة
- السوداني ورافع العيساوي يبحثان دعم الاقتصاد العراقي